ربما تعد قضية التعددية احدى اهم الاشكاليات التي تقابل عالمنا العربي في الوقت الراهن ، فقد ضاقت الصدور بالاخر ، وبدا المغاير عنا كما قال سارتر ذات مرة في ستينات القرن المنصرم وكأنه الجحيم ، وليس أدل على صدقية هذا الحديث من الاصوليات الدينية التي تتصاعد في اعلى عليين شرقا ، فيما القوميات والشوفينيات الغربية تعاود الظهور في اوربا تحديدا محاولة ازاحة الاخر المختلف ايمانيا وعرقيا بنوع خاص .
يهمنا هنا تناول مسالة التعددية من منظور عربي شرق اوسطي سيما وانه كي تزدهر الديمقراطية لابد من ان تكون هناك ثقافة تقبل التنوع واحترام وجهة نظر الاخر المختلفة وان نعتبر الحقيقة امر نسبي وليس مطلق .
احد الذين توقفوا مؤخرا بعمق امام تلك الاشكالية ياتي الدكتور ” مروان المعشر ” الوزير والدبلوماسي والمفكر الاردني “، والذي تناول ابعاد القضية بعمق في كتابه ” اليقظة العربية الثانية “.
الكتاب صدر بعد موجة ما عرف بثورات الربيع العربي ، والذي لم يكن في واقع الحال ربيعا او عربيا بالمرة ، وانما كان شتاء اصوليا قاسيا وقارسا الى ابعد حد ومد ، ومع ذلك فقد افرز نتيجة مريعة وهي اننا مجتمعات غير قادرة على التعايش في تجانس كمي ونوعي ، وهذه هي القضية وتلك هي الاشكالية .
عند الدكتور المعشر انه من دون ثقافة التعددية من المستحيل بناء نظام يعمل على اعادة توزيع السلطة ، ولن تؤدي عمليات الانتقال التي تحدث في المنطقة الى انتخابات برلمانية ورئاسية وحكومات ائتلاف وصياغة دستور وما شابه .
هناك في واقع الامر مشكلة فطرية اذ لدى البشر احساس متطور بين “نحن “، و ” هم “، والسؤال عربيا تحديدا هل هناك جذور لعدم قبول الاخر المتعدد والمتنوع ، وهل تلك الجذور بنوع خاص نجدها في النظام التعليمي العربي والذي يحتاج اليوم الى مقاربة حقيقية وتغيير جوهري ؟
الشاهد ان انظمة التعليم العربية تفتقر الى احترام التنوع على نحو واضح جدا ، وبدلا من ذلك يتعلم الصغار في العالم العربي ان الوحدة الوطنية والاقليمية لها الاسبقية على الاختلافات في الثقافة والراي . وعادة ما ينظر الى التنوع في التفكير نظرة سلبية . وتعمل معظم انظمة التعليم العربية بفاعلية على تعزيز التحليلات البسيطة وعلى تحاشي التنوع في الراي والتفكير الناقد . وعليه فان الافتقار الى اللبنات الفكرية لمجتمعات ديمقراطية تعددية يعني ضمنا ان الاصلاح التعليمي هو شرط اساسي لبناء مثل هذه المجتمعات .
يمكننا ان نساءل الدكتور المعشر هل قضية تغيير بوصلة التعليم العربي ليقبل الاخر عبر الحوار والجوار هي مسالة سريعة ام انها في حاجة الى مراكمة معرفية وجهد تربوي يقودان في نهاية المطاف الى تغيير ايجابي وخلاق ما يعني انها تحتاج الى عنصر الوقت ؟
بحسب صفحات الكتاب يمكن القطع باننا ازاء مرحلة كفاح معرفي ان جاز التعبير ، فالاصلاح التعليمي الناجح قد يستغرق نصف قرن حتى تظهر نتائجه وتبعاته ، ما يجعلنا نركز بصورة عاجلة على تخصيص الاموال والموارد البشرية لذلك الجهد الان .
يبقى من البديهي القول انه مع الاصلاحات المناسبة يكون لدى التعليم القدرة على انشاء اجيال من المواطنين المشاركين وانتاج قوى عاملة قادرة على تطوير وتوسيع الاقتصاديات الوطنية .
فتح المسارات امام التعددية كما يذهب الدكتور المعشر عبر التعليم درب طويل يجب ان نقطعه ، لا سيما وان هناك اخطاء تصل الى حد الخطايا ارتكبت طوال عقود في العملية التعليمية في عالمنا العربي قادت الى الوضع الراهن ، فقد فضلت المؤسسات السياسية القديمة والمؤسسات الدينية القوية حماية احتكارها للحقيقة بدلا من انشاء انظمة تعليمية تمنح الطلاب الحرية والادوات الفكرية التي تمكنهم من وضع الممارسات السابقة موضع تساؤل، والابتكار او اضافة قيمة الى القطاع الخاص ، ونتيجة لهذه الممارسات التي تهدف الى الوقاية الذاتية ، عملت المدارس على منع اجيال كاملة من تحقيق امكانياتها ، ولم يتم تجهيز الطلاب لتحسين ممارساتهم المؤسسية او التنافس في السوق المحلية او العالمية .
يبدو العالم العربي في الوقت الراهن امام مفصل تاريخي فاما المضي قدما في اثر منظومة الاتباع والقول بان الخير في كل سلف والشر في كل خلف ، واما الخروج من شرنقة التعليم التقليدي التي تعيش حالة انسداد تاريخي الى افاق ارحب واوسع من تعليم الابتكار واعمال العقل في النقل كما قال الفيلسوف توما الاكويني ذات مرة .
لا يدعم التعليم بدون التجديد والابداع الانتاجية الاقتصادية في عالم اليوم ، ومن شانه ان يؤدي الى اعاقة ظهور مجتمعات مزدهرة . ومن الممكن ان يكون تعليم الابداع ببساطة باعطاء الطلاب مهمة انتاج شيئ ما . أي شيئ من عمل فني الى الفيديوهات ، وتجعل مهارات حل المشاكل والتفكير الناقد المتعلم قادرا على الاخذ بالاعتبار افكار بديلة ، والتفكير في حلول غير تقليدية لمشاكل تقليدية .
من اجل تعددية حقيقية يجب الا تستمر المدارس بعد الان في تقييد اختصاصها على اكتساب الحقائق ، بل يجب ان تعتمد تعريفا للمعرفة يشتمل على التنمية الاجتماعية والعاطفية ايضا .
الخلاصة .. التعليم الجيد طريق للمواطنة والتعددية الناجعة .