مقدمة لابد منها
إن الأعمال الكلاسيكية سواء فى الفن أو الأدب هى التى تمتلك التميز والتفرد فى قدرتها على البقاء متحدية الزمن من خلال التعبير عن الواقع الإنسانى بلغة فنية تنطلق إلى آفاق أرحب فى الثقافة الإنسانية بصفة عامة.
ومن خلال هذه الأعمال الكلاسيكية والتى تزخر بها السينما العربية والمصرية بصفة خاصةعبر تاريخها الطويل والتى قدمت فيه العشرات من الأفلام التى تحمل قيما فنية ورؤى فكرية متميزة وكذلك أعمالا أدبية عربية وعالمية لكتاب كبار.
ومن هذا المنطلق وحبا وحنينا لهذا التراث الإنسانى ولهذه الأعمال ولزمنها الجميل سنحاول معا إعادة تقييم البعض منها فى محاولة لتلمس مواطن التجديد والإبتكار والجمال بها حيث تمتلك السينما العربية رصيدا غاليا من هذه الأعمال الناجحة والتى مازالت تعيش فينا وبيننا…وهانحن معا نحاول التأمل من خلال الغوص بموضوعية للتقرب والتعرف على هذه الأعمال الرائعة والتى قدمتها الشاشة عربيا وعالميا فى زمنها الجميل .
قراءة نقدية لـ: شريف الوكيل
امرأة في الطريق
فى دراما وحشية وغرائز مدمرة قدم لنا المخرج (عز الدين ذو الفقار) فيلمه الجميل “امرأة في الطريق” عن قصة تدور احداثها فى بيئة شرسة متوحشة بالصحراء المترامية بالقرب من ملاحات الإسكندرية تعيش أسرة المعلم “فرج” زكى رستم المكونة من أبنين غيرشقيقين وامرأة زوجة الأخ الأصغر والجميع يقطن فى منزل صغير ملحق به ورشة لصيانة السيارات ومحطة بنزين .
يقدم الفيلم فى مشهد بالغ القوة والدلالة شكل العلاقة المعقدة والمتوترة بين أبطاله ويعد هذا الأسلوب مغاير تماما لما عودنا عليه المخرج “عز الدين ذو الفقار” فهو مختلف بشكل كامل عما إشتهر به من الميلودراما العاطفية والنزعة الرومانسية التى تسيدت مزاجه منذ فيلمه الأول(أسير الظلام) ولما لا وهو من المخرجين القلائل المثقفين فقد كان يهوى الأدب مما ساعده على كتابة أفلامه بنفسه أو المشاركة فى كتابتها وكذلك الموسيقى الكلاسيكية منذ صغره وكان يهوى التمثيل أيضا حيث مثل فى بعض من أفلامه. كان متزوجا من فاتن حمامة وانجب منها ابنته نادية وقد قدم للسينما اكثر من ثلاثين فيلما منهم فيلمنا (امرأة فى الطريق) الذى يدور حول ذلك الصراع الدائر بين أفراد أسرة المعلم فرج وكذلك ببنهم وسكان إحدى القرى الصغيرة التى تجاورهم.
ينتمي الفيلم إلى المذهب الطبيعى الذى يؤكد على أثر البيئة فى تكوين سمات الشخصيات بالإضافة إلى عامل الوراثة والغريزة، فالمكان هنا وهو بيئتهم يعتبر معزول موحش وقاسي تحده الملاحات والصحراء وتفصل بينه وبين القرى المجاورة الرمال الكثيفة لذا فشخوصه يخضعون بطريقة قدرية لهذه الظروف متحركين تحت ضغط غرائزهم التى تنطلق دون وعى فتدمر حياتهم وحياة من حولهم .
وقد ظهر ذلك الإنتماء للطبيعة أيضاً فى أسلوب الإخراج الذى تغلب عليه الدقة الشديدة فى الديكور بل وتصوير كثير من المشاهد فى الأماكن الطبيعية مما اكسب الفيلم صدقا حقيقيا بالإضافة لبراعة الإضائة وتنقل الكاميرا وتأثيراتها الدرامية على المشاهد خاصة المشاهد الليلية.
واستطاع الموسيقى “أندريا رايدر” فى خلق موسيقى تعلق على الحدث وتضيف إليه وتبعث الشجن أحيانا أوالأسي على مصائر الشخصيات ووضع “ثيمة” خاصةلعزف آلة وترية تصاحب لحظات الإنكسار والإحباط لأبطال الفيلم كما جعل من لحظات الصمت والموسيقى معادلا قويا للغة الحوار والتى كانت لغة شديدة الصدق والتعبير عن دواخل الشخصيات متميزة بالتركيز وعدم الثرثرة،وبالطبع ساعد على ذلك تلك المجموعة المتميزة من الممثلين والأداء العبقرى لهم يتقدمهم ذلك الجبل السهل الممتنع (زكى رستم) وحركته المحبوبة وطريقة نطقه للكلمات وتعبيره عن الشخصية المليئة بالتناقض حبا لأبنه الصغيرالى حد البله وكراهيته لأبنه الكبير الى حد الجنون وهو كفيفا فاقد البصر وتجده ينتقل ببراعة وإتقان بين قلب صخرى احيانا وقلب طفل فى لحظة اخرى ليصل لمشهد النهاية وهو يسير متعثرا محطما يصرخ على ولده فى تحسر وتوسل والكاميرا تبتعد عنه فى لقطة تجسد عمق المأساة التى دفع بنفسه وابنائه إليها عن طريق نبرات صوته وطريقة السير.
كما استطاعت (هدى سلطان)ان تكون الرغبة مجسدة فى امرأة ساعدها جمالها وقدراتها الفنية فى التحكم فى مخارج الألفاظ ونطقها بدقة فأستطاعت ان تؤدى دور العاشقة فى براعة وإتقان يحسب لها وكذلك (شكرى سرحان) الإبن الصغير والمحبوب من الأب فقد استطاع بملامح وجهه وطريقة كلامه وحركاته ان يظهر شخصية الإبن الفاسد المدلل، اما(رشدى اباظة) فقد برزت مواهبه وكانت بدايةالطريق ليكون واحدا من أنبغ وأفضل الممثلين فى هذه الفترة.
ويظل الفيلم علامة مميزة وفريدة داخل مسيرة(عز الدين ذو الفقار) وواحدا من أهم وأجمل الأفلام المصرية .
امرأة فى الطريق
انتاج ١٩٥٨. اخراج : عز الدين ذو الفقار
قصة:عبد الحى اديب
موسيقى: اندريا رايدار
بطولة: هدى سلطان وشكرى سرحان ورشدى أباظة وزكى رستم وآمال فريد ومحمد توفيق وعبد الغنى قمر .