ما الذي يجعل عالمنا يدرك نجحاً كبيراً في سعيه الدؤوب للاقتراب من أسوار ” المدينة الفاضلة ” ، على أمل أن يدلف إلى عمقها عما قريب ، ورغم علائم الإحباط والتشاؤم البادية في الأرجاء؟
أمران مؤكدان، متصلان لا ينفصلان، أديان تعزز من كرامة وحرية الفرد الإنساني ، باعتباره حجر الزاوية الرئيس في بناء حضارة المودات واللقاء ،لا مجتمعات الفراق والجفاء، وتنمية حقيقية مستدامة تؤمن بحق الآخر المختلف، في فرص حياة كريمة ، من خلال عمل جيد ، وتعليم متميز ، وصحة بناءة، ومساواة في الفرص، ومواطنة بدون تمييز.
الرؤية اليوتوبية المتقدمة كانت محور مناقشات المؤتمر الذي نظمه المجلس الاستشاري لوكالات الأمم المتحدة حول الدين والتنمية في نيويورك ، نهار الخامس عشر من يوليو تموز الجاري، ودار البحث المعمق حول دور الشراكات بين أتباع الأديان في خلق مجتمعات متعايشة ، تسامحية وتصالحية، ترسخ المساواة وتشيع السلام والمودات ، تتطلع إلى عالم أكثر إنسانوية ، وفى رحابه من المعرفة البناءة.
على رأس المشاركين في المؤتمر جاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات” كايسيد “،، والذي مثله الأمين العام السيد فيصل بن معمر.
بدأ المؤتمر وكأنه قولاً وفعلاً تجمعاً إنسانياً عالى المستوى يدرك أبعاد الأزمات الإنسانية المعاصرة، كالشعبويات الصارخة ، والقوميات الزاعقة، ناهيك عن الأصوليات واليمينيات الدينية، غير المؤمنة بفكر الشراكة الخلاقة أو التعايش الواحد، والتى لا تعرف سوى دروب العزل والإقصاء ، طريقاً ومنهاجاً في زمن انتكاسة العولمة الإنسانية إن جاز التعبير.
خمس وأربعين منظمة من منظمات القيم الدينية والإنسانية، حكومية وأهلية، ومديري معاهد التربية التابعة لليونسكو، وسفراء عدد من الدول العربية والأوروبية، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى عدد كبير من القيادات الفكرية والدينية من حول العالم، تنادوا جميعهم للبحث في آفاق الأديان والإنسان، والتنمية فيما بينهم.
تعود المملكة من جديد لتأخذ الموقع والموضع التقدمي الذي تستحقه من خلال مشاركة الدكتورة “ثريا عبيد” ، عضو مجلس الشورى السابقة، والمدير التنفيذي الأسبق لصندوق الأمم المتحدة للسكان، في أعمال المؤتمر، وقد كان لكلمتها التى استعرضت فيها تجربتها المحلية والعالمية، ورحلة عطائها في مسيرة العمل الجاد والمثمر في بلادها، كأول شخصية نسائية سعودية وعربية مؤثرة دولياً ترأس وكالة تابعة للأمم المتحدة، صدى طيب وإيجابي عند المستمعين من كافة الأجناس والأعراق.
المملكة الحاضرة في شخص الأمين العام السيد فيصل بن معمر، كانت تؤكد ، وفى الكلمة التي ألقاها على الأهمية الكبري لمثل ذلك المجلس الاستشاري الرائد ، فى تهيئة الأجواء للتواصل بين الأفراد والقيادات والمؤسسات المتنوعة ، تلك التى تحمل لواء وشعار القيم الدينية والإنسانية ، وبين صانعي السياسات في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المتنوعة لتحقيق آمال وطموحات المنظمات العالمية في مناقشة القضايا الملحة ، وتقديم الاقتراحات والمبادرات المناسبة ، لتكون عونا لمنظمات الأمم المتحدة ، وهى ترسم ملامح وخطط قضايا 2030 الملحة.
كان “كايسيد” ولا يزال تقدميا وإنسانياً في برامجه وأهدافه ، ولا سيما بما ضمنه كل أعماله من الحقوق الأساسية للإنسان، وفي كل حواراته ومبادراته كان مركز الملك عبد العزيز العالمي ، ساعياً لجعل العيش المشترك بين أتباع الأديان حقيقة فاعلة وناجزة، على الأرض، وفي مقدم تلك الحقوق الحق في الحياة بما تحمله الكلمة من مترادفات لفكر استخلاف الخالق للإنسان على المعمورة.
من له المقدرة على تكوين قواعد مشتركة لصناعة السلام والعيش في ظل المواطنة؟
حكماً تبقى القيادات والمؤسسات الدينية هى الرائدة والسباقة في هذا الإطار، أولئك الذين وصفهم السيد فيصل بن معمر بالمتدينين الحقيقيين ، الذين يستلهمون من الدين معراجاً يسمون به إلى قمة الإنسانية المتراحمة.
لقاء نيويورك وكما يؤكد الأمين العام لكايسيد، يعنى أننا بحاجة إلى إيجاد وسائل أكثر نجاعة لتأسيس قناعات راسخة لدى صانعي السياسات حيال إرساء أرضية مشتركة معهم.
تبقى الأديان مشاعل وقناديل تنير الطريق للبشرية ، مهما أختلفت وتعددت، وتظل القيم الإيمانية والروحية لأكثر من 80% من سكان المعمورة، إحدى أهم السبل الرئيسة، والمهمة للحيلولة دون الإنزلاق في بؤر الصراع، وحفائر الكراهية، كانت الأديان وستبقى على الدوام، عامل تعاون وتكامل وأمن واستقرار في المجتمعات المتعددة المذاهب والطوائف والتي تكثر فيها الثقافات.
علمتنا التجربة التاريخية أن التنوع ثراء وإثراء، وأن الأحادية الذهنية لم تجر على العالم إلا الوبال ، وتجارب الأمم الغابرة التى تناحرت من جراء التشارع والتصارع المذهبي، تعلمنا الحاجة الماسة لترسيخ ثقافة التعدد الديني والثقافي على المستويات كافة، والتواصل بين الحقوق والقيم العالمية، والتنمية البشرية، والتعاون مع أصحاب القرار السياسي، ومن أجل تنمية مستدامة وإنسان حر كريم مبدع خلاق.
بناء السلام في مجتمعاتنا المعاصرة ، والحديث لرجل كايسيد، ينبع من الإدوار الأصيلة للأفراد والقيادات في المؤسسات الدينية ، أولئك الساعين للقفز على الانقسامات المجتمعية والعرقية، النشطاء في حواضنهم المحلية، الضامنين بالتزامهم وأمانتهم لكل ما هو حق ومقدس، عادل ونزيه، مستقر ومستمر.
يقول الصينيون إذا كان “المثل يؤثر فالعمل يجذب” ، والشاهد أن التجارب الحياتية، الحوارية والجوارية، الناجحة لكايسيد في أوربا، والشرق الأوسط، في ميانمار الآسيوية، ونيجريا الأفريقية ، والتى عرضت على المشاركين في المؤتمر ، أكدت وبما لا يدع أى مجال للشك، صدق رؤية المملكة 2030، المنفتحة على العالم والقابلة للآخر، والساعية في معارج الفضيلة الإنسانية، المملكة المؤمنة بأنه لا مجال للنجاة الفردية، وأن سفينة البشرية، تحتاج لفريق يجدف معا ناحية بر الأمان الاقتصادي والإنساني.
يبقى مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز قيمة مضافة، ضمن مصفوفة لآليء البشرية الأخلاقية ،العاصمة من رياح التعصب وعواصف التمذهب، اليوم وغداً ، وإلى أن يشاء الله.