بحلول منتصف اغسطس الماضي ن كانت ميدينة ريميني الايطالية تشهد الدورة ال 40 لملتقى ” الصداقة ” بين الشعوب ، وهو اكبر مهرجان ثقافي صيفي على مستوى اوربا والعالم الغربي ، وتقام فعالياته في هذه المدينة الشمالية الساحلية منذ اربعين عاما ، ويحضره قرابة المليون شخص ، وقد قدم هذا العام نحو 179 لقاء مع 625 محاضرا ، و25 عرضا فنيا موسيقي ومسرح وسينما ، اضافة الى 20 معرضا و 35 حدثا رياضيا .
ما هو الهدف الرئيس من وراء مهرجان او لقاء ريميني ؟
باختصار غير مخل يبقى الهدف الرئيس هو اتاحة الفرصة لشباب العالم من مختلف الاجناس والاعراق لان تلتقي وتتعارف ، ان تنشد الحياة وتتجاوز الموت ، ان تشد ازر بعضها البعض ، لا ان تتناحر وتتقاتل ، ان ريمين دعوة للقاء ، في زمن آمن فيه الكثيرين ان التناحر هو المآل الوحيد ، وان صراع الحضارات هو قدر منقوش على حجر ، كما اراد البعض ان يروج ، ما ادخل العالم في شرنقة الانقسامات والخلافات منذ بدايات الالفية الجديدة وحتى الساعة .
حمل عنوان اللقاء هذا العام تعبيرا مثيرا ” تولد اسمك مما كنت تحقق فيه “، وفي الواقع يعود هذا الشعار الى بابا الفاتيكان الاشهر في نهاية القرن العشرين واوائل القرن الجاري ” يوحنا بولس الثاني “، سعيد الذكر (1978-2005)، وهو يلقي الضوء على تجربة مررنا بها جميعا ، على الاقل في اللحظات الحاسمة والاكثر اهمية في حياتنا ، وهي تجربة ان ” اسمنا ” ماهيتنا الانسانية ، يولد مما نحددق به ، أي من علاقتنا مع غيرنا ، مع عنصر خارجي للوجود والحضور .
والشاهد ان اللقاء عادة ما يحظى بعناية ورعاية من كبار الشخصيات الايطالية بنوع خاص ، فعلى سبيل المثال وجه البابا فرنسيس بابا روما هذا العام كلمة للمشاركين اشار فيها الى حاجة الكثيرين حول العالم لان يروا وجده الله مجدا بعد ان سحقتهم ومحقتهم تجارب الحياة القاسية ، لا سيما المادية القاتلة التي باتت العنوان الاكبر والاشهر لعالمنا المعاصر .
في كلمته اكد فرنسيس على ان انسان اليوم يعيش غالبا في عدم يقين ويبدو انه بلا قوة ، ويسيطر عليه الخوف بسهولة ، وعليه فالتساؤل أي رجاء يمكن ان يكون في هذا العالم اذا ؟ وكيف يمكن للانسان ان يعثر مجددا على نفسه وعلى الرجاء ؟
والخلاصة عند الحبر الفاتيكاني الاعظم انه ” في زمن حيث الاشخاص بلا وجه وبلا اسم ، لانهم ليس لديهم من يتطلعون اليه ، وانه علينا ان نتذكر ان وجودنا لا يتحقق الا بفضل العلاقات التي نعيشها “.
في ستينات القرن الماضي صاح سارتر فيلسوف فرنسا الوجودي الاكبر والاشهر بان الاخرين هم الجحيم ، ولعله من المثير ان هناك وقع وصدى لكلماته هذه لا تزال ترن في اذان امم وشعوب كثيرة باتت تفضل الانعزالية جغرافيا وديموغرافيا ، ومن هنا يمكننا ان ندرك سر ما جرى في الشرق من اصوليات قاتلة وما ينتعش في الغرب من قوميات شوفينية مميتة بدورها ن وقد خبرها الاوربيون في منتصف القرن الماضي عبر النازية والفاشية .
هذه المحصلة ربما هي التي دعت الرئيس الايطالي في كلمته الافتتاحية للقاء ريمين ان يؤكد على انه ” علينا ان نواجه الجديد بشجاعة دون حنين يشدنا الى الوراء ، محتفظين دائما بالروح النقدية وبالانفتاح على الاخرين “، ومضيفا ” ان مسيرتنا يجب ان تكون مسيرة نضج وتحرر ن فنحن مدعوون دائما للانطلاق في هذه المسيرة من جديد بدءا من الشخص المفرد انتهاء بالمجتمع والحضارة عموما “.
من بين اهم العلامات في لقاء ريميني هذا العام كان لقاء الاب ” فرانشيسكو باتون “، الرئيس الاقليمي للاباء الفرنسيسكان في الارض المقدسة ، والذي توقف على نحو خاص امام الذكرى الثمانمائة للقاء التاريخي الذي جمع الشرق بالغرب ، والاسلام بالمسيحية ، لقاء القديس فرنسيس الاسيزي ، مع السلطان الكامل الايوبي سلطان مصر ، ذلك اللقاء الذي ججرى في اوقات حرجة ومزعجة ، ايام حروب الفرنجة كما اسماها العرب ، او الحروب الصليبية كما اشار اليها الغرب .
على هامش لقاء ريمين نظم معرضا للوحات والوثائق التاريخية تحت عنوان ” لقاء على الضفة الاخرى”، والمعرض تم اعداده من خلال فريق من المؤرخين ، واظهر للمرة الاولى بعض الهدايا التي تبادلها السلطان الكامل والقديس فرنسيس ، وجاء ليوضح وفقا لمنظمته الدكتورة ” ماريا بيا البيرزوني ” الاستاذة بالجامعة الكاثوليكية بميلانو ” دلالات اللقاء ونتائجه “، اكثر من فهم تفاصيل اللقاء ذاته .
تكشف وثائق المعرض عن الاجماع على السلطان الكامل كشخصية منفتحة وبالغ الكرم ، ومن ثم لم يكن اللقاء بين الراهب الفرنسيسكاني الفقير والسلطان مستحيلا ، كما انتهى بتحرير بعض اسرى الحرب والكثير من التغيير في رؤية فرنسيس لجماعته الرهبانية الوليدة .
هناك جزئية مهمة للغاية في هذا المعرض ، وهي انه كشف عن اللوم الذي وجه للسلطان المنفتح على الارخين من جانب اعوانه ، فقد اعتبروا ان لقاءه مع فرنسيس الذي يبشر بالمسيحية امر فيه تجاوز وغير مقبول ، غير ان السلطان كان يرى انه من الضروري الاستماع الى هولاء الناس ، وانتهى اللقاء بتحميل الراهب بالهدايا ومنها بوق يظهره المعرض ،كان يستعمل للدعوة الى الصلاة .
لقاء ريميني باختصار غير مخل يعني ان الحوار والتثاقف مع الاخر افضل الطرق لاعادة اكتشاف هويتنا الانسانية في عالم قلق ومضطرب وخائف من المغاير له ، رغم ان اللقاء يزيل المخاوف ويبدد الاوهام في الحال والاستقبال .