قراءة في سينما الزمن الجميل يكتبها الناقد الفني شريف الوكيل
فيلم اليوم يظهر جمال التعبير عن مكانة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والمكانة هنا لا تنصرف إلى القيمة الفنية الغنائيةفقط، بل إنها تتجاوز ذلك الجانب إلى الإطار الاجتماعي والثقافي والنفسي العام.
يقول المثل العربي القديم “لكل طاغية هاوية”، ومع هذا المثل لنا وقفة مطولة مع محمد خان وأحمد ذكى وميرفت أمين وفيلمهما(زوجة رجل مهم) والذى كتبه السيناريست والناقد رؤوف توفيق، ليخرجه المبدع محمد خان عام ١٩٨٨ .
هشام “احمد زكى” واحد من عدة أنواع من الناس نجده يعانى من الشعور المبالغ فيه بأهميته الخاصة، ويعيش فى شوق وإحتياج عميق للاهتمام والإعجاب المفرطين من قبل المحيطين به، ومن يتعامل معهم شخص، تتحكم به نرجسية مضطربة، فهو لايتعاطف مع الآخرين، لأن الأهم من الآخرين عنده هو نفسه، دائما مايسعى نحو إلزام الآخرين بالاستجابة له وبالترحيب المبالغ فيه، أو على أقل تقدير الإعجاب الشديد .
أمسك زكي بمفاتيح الشخصية بما تضمنته من فترات صعود وغطرسة وقوة، وسقوط وشعور بالعار والمهانة، بعد أن فقد منصبه وسطوته بالعمل٫ وإستطاع أن يرسم بملامح وجهه كافة المشاعر المتضاربة، من قسوة وغضب وهيمنة ثم اليأس والانكسار والألم ، تمكن من توظيف نبرة صوته ايضا لتتناسب مع كل هذه المشاعر المتباينة.
منى”ميرفت أمين” فهي الفتاة التي يتمناها أي رجل لجمالها ورقتها وذوقها الواضح وهي البنت الهادئة المستقرة النفس، الرومانسية العاشقة لاغاني عبدالحليم حافظ، والتى تنعم بحياة راقية فى رحبة أبيها المهندس الزراعى وهى التي لم يستطع هشام نفسه ألا يؤخذ بها.
لكن ورغم رقي الأب إلا أن ديمقراطيته كانت سببا من أسباب زواج ابنته الطالبة إلى ضابط المباحث؛ فلقد عرف الأب منذ المقابلة الأولى لهشام أنه قد ألقى بإبنته إلى التهلكة بسبب الضغوط وبسبب موافقتها التي نتج عنها موافقته هو. فنجده يقول لها بإحدى المشاهد “أنا مش قادر آخد قرار في الموضوع ده.. دماغي مقلوبة ومش مستريح. بعض اللي سألتهم قالوا عنه أنه عنيف ومتكبر” إلا أنه وبسبب الضغوط والرهبة التي يمثلها هشام بداية من حضوره لطلب يد منى برفقة مدير أمن المنطقة، حتى رصف الشارع أمام بيتهم حتى يبين له قدرته على رصف طريق مستقبله، كل ذلك قد جعل الأب يرضخ بالنهاية.
زوجة رجل مهم”.. يدور عن ضابط مباحث متسلط وجاف، ولكن مشكلته تكمن فى نرجسيته، يستغل السلطة المخولة له بشتى الطرق كافة، يتزوج من فتاة وديعة رقيقة، إلا أنها فى البداية تنخدع فيه وتظن أنه شخص ودود وطيب، لكنها تكتشف حقيقته بعد الزواج، حيث تعيش حياتها فى مأساة مريرة، فتحاول الانفصال عنه دون جدوى، وتدور الأحداث متشعبة فى أكثر من إتجاه يكشف فيه (رؤوف توفيق) عن أمورا عصيبة مرت بها مصر من أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، لينتهي الفيلم بإصابة الزوج بحالة هياج هستيرى لفقده سطوته ومكانته ، ليقوده بقتل والد زوجته ثم إنتحاره … فكرة إنسانية في المقام الأول صاغها رؤوف توفيق من خلال سيناريو محكم مترابط، يبين لنا الصراع ما بين إرادتين (منى) البريئة الحالمة المتيمة بحبها لعبد الحليم حافظ، وهشام الضابط المتسلط الصارم، وهنا يمكن القول أن الفيلم يدور فى مدارين يلتقيا معٱ، لكنهما مختلفين فاالزوج يستطيع بأفكاره وشخصيته السيطرة على وعى وتفكير زوجته، لكنها تحيا بمشاعرها وقلبها فى زمن غير زمنه، (زمن وصوت عبد الحليم حافظ) ، وهذا ليس مجرد إهداء وتقدير فحسب، لكنها رسالةمهمة جدٱ يقصد بها أن زمن عبدالحليم وهو زمن الحب والعاطفة والرومانسية والحلم والأغاني الوطنية، سوف يقابله زمن المادة والمصلحة والجفاء، والذى سوف يسيطر على العلاقات الإنسانية، فنجد منى عاشقة أغانى عبد الحليم والمتيمة بحبه، وهشام الضابط المتكبر الأناني الذى كل حلمه السيطرة والسلطة، ليستمتع بنظرات الناس له وخوفهم منه .
وهنا نخلص بأن الفيلم ينتقد الدولة البوليسية، وتحكمات رجل البوليس فارضا سطوته بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار
فنجد رجل البوليس يمارس العنف على زوجته بشكله المادي الجسماني بضربها، وبشكل أكثر قسوة بقتل أحلامها ووأد حياتها، وبالتالى يقتل كل ما كانت تحبه بعنف يغلفه برود وصلف ، بتصلب ملامح وجهه وصوته ، فهو يتعامل مع زوجته كشيء أو على الأكثر كنبات أو حيوان أليف يتمتع به، بدلا من التعامل معها كإنسان ند له كيانه وأفكاره ومشاعره إنسان قادر على المشاركة في شتى مجالات الحياة بإيجابية، وليس سوى السادية والآنانية الموضوعة بحبكة جيدة توضح العنف تجاه الآخر، وهو ماجعل للفيلم شكلٱ جماليٱ، يظل مرتبطا به لعدم تقبل الآخر.
لغة سينمائية جديدة تميز بها فيلمنا الذي بدا يغرد خارج السرب السينمائي كله عندما عرض في منتصف الثمانينيات تقريبا، كما تميز ايضا بأفق تعبيري جميل وذكي تعاونت على تحقيقه كل عناصر السينما ابتداء بالسيناريو الذي كتبه السينارست المخضرم رؤوف توفيق بسلاسة فائقة، جعلت المشاهد فيه تتوالى وكأنها حركات موسيقية في بناء سيمفوني مترابط وانتهاء بالإخراج الذي رسمه محمد خان مشهدا مشهدا.
اما التمثيل فقد كان مباراة راقية كرست الفنان الراحل أحمد ذكي ممثلا يقف على قمة الهرم السينمائي العربي المعاصر كما كرست الفنانة ميرفت امين في دور عمرها كله…لقد نجح ذكى في تقديم شخصية ضابط الأمن المتغطرس عبر قراءة نفسية دقيقة لعناصر الشخصية، وخصوصا في الجزء الثاني من الفيلم عندما تحول الضابط المعروف بجبروته الذي لا يقهر، الى مجرد ضابط على المعاش لا حول له.
وقد ساعدته ميرفت امين في آداء دقائق الشخصية عبر دور لم وربما لن تكرره بعد ذلك، حيث تنقلت بالشخصية بنجاح من تهويمات الى ان وصلت بها الى زوجة رجل مهم لا يترك لها مساحة للتنفس خارج حدود سطوته اولا وحيله النفسية اخيرا.
وبعيدا عن مغامرة النبوءة ‘السياسية’ التي تحمل الفيلم مسؤوليتها بنجاح مشهود، يبدو أن هذا الفيلم الثمانيني الجميل صار واحدا من كلاسيكيات السينما العربية بالفعل…مثل أحمد زكي وبمهارة شديدة فكرة التوجيه الأبوي من الدولة إلى المواطن، وجعل الموطن يفكر كما تفكر الدولة، وأي خروج عن هذا الإطار يقابل بكل عنف وحزم، حتى يعتقد من هم بالسلطة في فكرة امتلاك المواطن، ليجد المواطن نفسه محاصرًا بالدولة…ويذكر أن أحمد زكي كان قد صرح في أحد تسجيلاته القديمة بعد الفيلم: «إنه لبس الشخصية بشكل كبير لدرجة أنه بدأ يتحرك بها وأثرت على الجهاز العصبي لديه كذلك».
ومن خلال آداءه المتميز فى كل ماأسند إليه من أدور قدمها للسينما استطاع أحمد ذكي، أن يصبح من نجوم الشباك في السينما المصرية، خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ويمتعنا خلال هذه الفترة بأدوار عبّرت عن كل فئات المجتمع المصري، بدءا من حارس العقار الصعيدي في “البيه البواب”، والمجنّد في الجيش في “البريء”، ورئيس الجمهورية في “ناصر ٥٦” و”أيام السادات”، وضابط الشرطة المتعجرف المستغل لصلاحياته في “زوجة رجل مهم”، وهو الدور الذي جعل الممثل العالمي “روبرت دي نيرو” أن يشيد به.
مثلت ميرفت أمين داخل أحداث الفيلم الإنسان الذي يريد أن يستمتع بالحياة و”يعيش في حاله”، لكنه يستطيع من وقت لآخر التعبير عن رأيه إذا أراد دون المساس بأحد حتى يكتمل من خلال ذلك دوره الإنساني في الحياة …ورغم أنها بعد زواجها إستطاع زوجها المهم أن يفقدها شخصيتها وهويتها وكيانها كامرأة وإنسانة، ، ففي أحد المشاهد الذي يقدم جنازة عبد الحليم حافظ، وحزن “منى” الشديد وبكائها، يرد عليها زوجها بنوع من السخرية : ” كل ده علشان مغنواتي”، فهو أيضا لا يدرك ولا يتقبل في داخله أن تولي زوجته مسألة المشاعر هذا القدر من الأهمية
هكذا كان محمد خان دائما مانجده مشغولاً بالتفاصيل، ولا يفوت فرصة في أن يختزل، وأن يستخدم الرمزية للإشارة إلى معانٍ أخرى أكبر قد تغير في نفس المشاهد وعقله أفكارا أثناء المشاهدة، وتساعده على التحليل العميق والوصول إلى ما هو أبعد من الحدوتة والحوار المكتوب، وكانت لديه شجاعة احترام ذكاء المشاهد في مشاركته أحاسيس ومفاهيم العمل الذي أمامه على الشاشة، لذلك كان يدقق في استخدام الرمزية داخل أعماله، وينتظر من الناس أن تقرأ ما بين السطور دون أن تكتفي بالقصة والحوار فقط، من أجل تكوين صورة كاملة عن الأحداث ومجرياتها وطبيعة الشخصيات التي تدور حولها الحكاية.
لذلك كانت مشكلته الدائمة التى كانت تؤرقه هى بحثه عن ناقد فني، وكتابة عن السينما تغوص أكثر في العمق، ولا تكتفي بالخبر، وظل هذا أملا حتى رحل عن عالمنا فى عام ٢٠١٦ .
أما عن رؤوف توفيق فكانت انطلاقته الأدبية عبر تأليفه لعدة كتب نالت دهشة واحترام الجميع وكان أولها (السينما عندما تقول لا) وكان أول سيناريو فيلم يكتبه هو(زوجة رجل مهم) الذي فاز بجائزة أحسن سيناريو ثم توالت بعده أفلام عدة كان أشهرها (مستر كاراتيه).
إستعان الإثنان بالموسيقى ” لتصمبم الموسيقى التصويرية للفيلم التى جاءت متناغمة مع موسيقى وأغانى عبد الحليم حافظ بكل ماتحمله من المعانى العاطفية الحالمة، فى تمازج رائع مابين أغانى حليم الجميلة حينما يكون المشهد يخص “منى” ونغمات كازازيان الصاخبة التى تشبه الموسيقات العسكرية عندما يكون مشهد يخص “هشام” وكان هذا الإنسجام الموسيقى مقصودا كرمز للشخصيتان المبنية عليهما أحداث الحكاية قاصدا التناقض بينهما .
كذلك كان للتصوير دورٱ أساسيٱ متماشيا مع شخصيات الفيلم، نجد التصوير يتنقل بنعومة ورومانسيه بين كل من منى وهشام، كما فى مشهد بعد زواجهما لتقوم “منى” بتقبيل “هشام” فنجد الكاميرا تتحرك بهدوء يصاحبها إضاءة ناعمة، مما يخلق جوا من الصفاء يغلف حياتهما، والذى مايلبث أن يختفى بمجرد أن ينفرد الزوج بالمشهد .
فى النهاية يضعنا الفيلم أمام شخصيتين متناقضتين تماما، تعيشان معٱ ومتشاركان فى حياة زوجية واحدة، يحب كل منهما الآخر بطريقته، ليأخذنا المخرج معه لنغوص فى أعماقهما ، ليظهر لنا مابداخلهما من مشاعر وأحاسيس، مترصدا كافة التغييرات والتحولات التى طرأت عليهما، فقدم “خان” أسلوبا بسيطا وممتعا فى فن الإخراج، وأثبت قدرته فى التحكم فى فريقه وأدواته الفنية، كما نجح فى تطويع أبطال الفيلم جميعهم لخدمة الفيلم نفسه،
ولكي يعبر المخرج عن ذلك ويؤكده، بدأ الفيلم بموسيقى لأغنية “أهواك” تدمع على أثرها عينى “منى” فى جو من الهيام والرومانسية لينتهي الفيلم بدموع “منى” تبكى قتل زوجها لأبيها وضياع حياتها وزمنها، ترافقها نغمات موسيقى عسكرية لتوضح لنا مدى جفاف ما وصلت إليه العلاقات بين الناس ومدى تردي وضعنا.
«زوجة رجل مهم»، من إنتاج عام ١٩٨٨وأخرجه للسينما المخرج محمد خان، ومن بطولة أحمد زكي، وميرفت أمين، وعلي الغندور، ومحمد الدفراوي، وحسن حسنى وخيرى بشارة،وزيزى مصطفى، وتصوير محسن أحمد، وقصة وسيناريو وحوار رؤوف توفيق .