رحلة بديعة إلى واحد من أجمل أفلام الكوارث يصحبكم فيها الناقد الفني شريف الوكيل
تعجبنى جدا فكرة افلام الجماعات او مايطلقون عليها افلام (الكوارث) حيث يقوم المخرج بتجميع عددا من الشخصيات الغير متجانسة ولا متعارفة ولكن يجمعهم شيئا واحدا وهو الموقف وكيفما يحدده المؤلف للقصة ليحوله المخرج لموقف قديكون كوميديا أو كارثيا وهناك أفلام مثل فيلم سيدني لوميت الذى قدمه عام ۱۹٥٧ اثنا عشر رجلًا غاضبا وكذلك السفينةبوسيدون لرونالدنيوم عام ١٩٧٢ وهذه النوعية من الأفلام لها صناعها ومخرجيها .
واليوم أقدم لكم فيلمٱ أنتج عام ١٩٦٠ من هذه النوعية وهو فيلم(بين السماء والأرض) لمخرجه المتميز جدا “صلاح ابو سيف” مخرج الواقعية المحترمة والتى بعد الإنتهاء من مشاهدتها تكتشف بأنها تركت آثرا فى نفسك…وقد إستطاع “أبوسيف” تجميع عددا كبيرا من الممثلين فى الفيلم على رغم أن الفيلم أحداثه تدور فى مكان واحد ضيق يجمع كل الشخصيات ولا يخرج عن حيز المكان إلا قليلا لتوضيح أمرٱ متعلقٱبشخص من الشخصيات المحتجزة داخل (إسانسير أحد العمارات) .
وبما أن مخرجنا هو (صلاح أبو سيف) فلابد وأن تكون القصة وحبكة السيناريو هو كاتبها { نجيب محفوظ} حيث إعتمد عليه مخرجنا فى ثنائيات كانت بينهما…وعلى الرغم من أن معظم النقاد كانو يعتبرون “ابوسيف” مخرجا جادا لا يعرف الهزار وتدل أفلامه على ذلك مثل فيلم الفتوة وغيرها الكثير إلا أنه قدم لنا فيلما ساخرا كوميديا بمعنى الكلمة …ولو كان نقادنا تمهلوا قليلا اثناء مشاهدة أفلام (صلاح أبوسيف) لوجدوا بها الكثير من القفشات والإيفهات الكوميدية فكان ابوسيف يلقى ببذور الفكاهة الساخرة فى وسط أفلامه أو مايمكن أن نطلق عليه الحس الساخر .
ولا يمكن أن ننسى له فيلم {الزوجة الثانية} الممتلئ بأفيهات ساخرة مازالت حتى يومنا هذا تتندر بها الناس كنوع من الدعابة فى مابينهم من حوار على سبيل المثال لاالحصر( الليلة ياعمدة) … وبين السماء والأرض يعد معجزة فنية جديدة إرتادها أبوسيف بجرأة تعادل جرأة يوسف شاهين حين أدار فيلمه {باب الحديد} داخل محطة السكة الحديد في يوم واحد أما أبوسيف فقد إستطاع إدارة فيلمه كله فى أحد المصاعد خلال ساعة ونصف فقط وهى زمن الفيلم وزمن الأحداث نفسها.
ولم يلجأ إلى أى حيل فى الكتابة أوالإخراج ليتخلص من ضيق المكان فكان يستعمل العودة إلى الماضى للكشف عن شخصياته ومن ثم الخروج من المصعد فقد حافظ أبوسيف على المكان والزمان فقدم عملا سينمائيا يقوم على مشهد رئيسى وهو المصعد مع بعض التفريعات فى ذات المكان والزمان والمكان عمارة ما كبيرة فى قلب القاهرة فى عز الصيف حيث الحر والعرق والإختناق . مضافا لها تلك الشخصيات المتنافرة وقد جمعتهم الصدفة داخل مصعدها، حيث يتابع مخرجنا سلوك كل هذه الشخصيات وأفكارها وإتجاهتها . ورغم صعوبة هذا النوع من الأفلام فى معالجته سينمائيا لإقترابه من الشكل المسرحى والإعتماد على المشهد الواحد وحيث الزمن السينمائى هو الزمن الفعلى فإن أبوسيف إستطاع الإستغلال الكامل للمكان وللممثلين .

وساعده على ذلك الحوار الرائع الذى قدمه كل من نجيب محفوظ والسيد بدير فقدم الفيلم مدرسة حقيقية فى الأداء تحسب للمخرج ثم الممثلين أنفسهم حيث كلهم نجوم لا يوجد نجم واحد يعتمد عليه الفيلم فكانت مجموعة من أكفأ الممثلين فكان معظمهم من كبار ممثلى المسرح المصرى منهم (شفيق نور الدين وعبد المنعم ابراهيم وسعيد ابوبكر ونعيمة وصفى ومحمود عزمى) وغيرهم وهم بقدراتهم الخاصة وطبيعة الفيلم نفسه والذى يدور كما لو كان على خشبة المسرح وإستطاعوا أن يقدموا أفضل أدوارهم فضلا عن التميز الخاص للفنان {عبد السلام النابلسي} الأرستقراطى المتحذلق و{هندرستم} النجمة السينمائية والتى كشفت دواخل عالم صناعة السينما وزيف العلاقات داخل الوسط السينمائى من خلال دورها .
قدم “صلاح ابوسيف” فيلمه هذا مبكرًا جدًا في الوقت الذي كانت فكرة أفلام المكان الواحد فكرة صاعدة وتحت التجريب، وهذا الإسلوب يعتمد اعتمادٱ كليٱ على الحوار المتعدد اﻷفكار وأيضٱ طبيعة تلك الشخصيات المختلفة أكثر بكثير من كونها مجرد فكرة ما يمكن لأى مخرج استخدام ما يحلو له في التعامل معها،وهذا يرجع لصغر المكان الذى تحدث فيه الحكاية مما يحتم على المخرج أن يقلص المساحة التعبيرية للصورة ومهارات الكاميرا المتجولة، ليكون تركيزه على الفكرة أو اﻷفكار التي يُمكن صناعة الفيلم من خلالِها عن طريق إستغلال هذا المكان الصغير الضيّق.فجاء رسم الشخصيات عبقريا من صناع العمل في توظيف هذه النقطة .

ومن خلال حبكة ورؤية متقنة، تكونت من أشخاص غير متجانسة فى الفكر والبيئة الإجتماعية، تحركت دراما الفيلم الأساسية فى إظهار طبيعة الأشخاص، والتى تجسدت خلال توترهم أثناء مشهد الولادة لإحدى السيدات المحبوسات بالمصعد، وقد كانت فكرة قوية من
جانب صلاح أبو سيف بينت النزعات الداخلية للشخصيات ، حتى وإن كانت أفكارهم سيئة وهنا تظهر براعة ‘ابو سيف’ والعمل ككل فى إظهار الجزء الجيد والجزء السيء بأشخاصه من خلال موقف واحد جمعهم وأفكار متعددة تكاد تفرقهم وهم “بين السما واﻷرض” .
الفيلم وماتشمله أفكاره الأصلية وكوميديته لم تتداول كثيرا، فمثل هذه النوعية من الأفلام تجدها رغم قلة تكاليفها لإستخدامها مكانا وحيزا ضيق محدد ، يبتعد عنها صانعى السينما لأنها تكشف قدرات المخرج فى طريقة إدارته لها، ولهذا السبب لم يعجب النقاد فيلما هكذا، وعلى أثر ذلك أعتبروه فيلما طغت عليه الفكاهة، كما لو أن الفكاهة حكرا عند أناس وعيبا عند أبوسيف، ويجب أن يبعد بنفسه عن هذا الخط، على الرغم من أن معظم أفلام مخرجنا دائما ماتجد بها الحس الفكاهى الساخر ولاتخلو من القفشات الكوميدية وروح الدعابة، لكن هى مغامرة فنية إرتادها أبو سيف بجرأته التى عودنا عليها مثلما قدم لنا من قبل “الحب بهدلة والزوجة الثانية وشارع البهلوان” وإستطاع أن يقدم لنا فيلما فى ساعة ونصف فقط وهو زمن أحداث الفيلم نفسه .
لايوجد فى هذه النوعية من الأفلام بطلا محددٱ فجميع الممثلين أبطال ، ولايستطيع أحد أن يحدد شخص ما من المجموعة ليكون البطل وبالتالى لن نتكلم عن شخصيات فيلمنا كل على حده، لكن يمكننا القول بأن كل من عملوا بالفيلم أبطالا …فقد قدم لنا السيد بدير سيناريو يجيب بإيجاز شديد على تساؤلات كيف حافظ المخرج على المكان والزمان للكشف عن أشخاصه المتنافرة، فى عمل يقوم على مشهد رئيسى واحد هوالمصعد فنجد نجمة السينما “هند رستم” التى حضرت لتصوير أحد مشاهد فيلمها فوق سطح العمارة، وهى تسير فى دلال ممسكة بكلبها، فيسيل لها لعاب الرجال ويثير حفيظة النساء، وهى تبدى تأففها وسخطها{ازاى عمارة زى دى مفيهاش غير إسانسير واحد} لتتحرك الكاميرا قليلا لنرى خادما “عبد الغنى النجدى” يحمل فوق رأسه صينية محملة بالطعام ” يرد عليها {الإسانسير التانى عطلان بقاله أسبوعين} وتبدأ شخصيات نجيب محفوظ الساخرة تقديم نفسها ، فيقف اللص “عبد المنعم مدبولى” وهو يتظاهر بالتوجع من الألم حيث يربط ذراعه فى جبيرة ليخفى فيها مسروقاته، وفى زاوية المصعد تقف سيدة فى شهرها الأخير من الحمل”نعيمة وصفى” تتحدث مع زوجها عن مصاريف الدكاترة المرتفعة، ثم يقدم المخرج زوجة أخرى”قدرية قدرى” التى تخون زوجها مع صديق له “محمود عزمى”ا وهى تحاول إثناءه عن فكرة قضاء بعض الوقت معا فى شقة صديق له ، وتستدير الكاميرا لشخصية أخرى لص الخزائن “محمود المليجي” فى مهمة لسرقة إحدى الشركات بالعمارة، ويظهر لنا رجل عجوز “شفيق نور الدين” محاولا الخروج من المصعد، فى الوقت الذى يفاجئنا فيه المخرج بشخص يرتدى بالطو” عبد المنعم ابراهيم” وهو يدخل المصعد بسرعة صارخا{أوعى الجاز} يتضح أنه مجنون هرب من بعض الممرضين لحظة القبض عليه، ويظهر شخص متأنق ذو مظهر أرستقراطى”عبد السلام النابلسي” محاولا دخول المصعد ليمنعه عامله بأن العددكامل يافندى ليرد عليه{أفندى فى عينك جلف عديم السيمترية والنظر} جميع من بالمصعد يتأففون من الحرارة فيما عدا ملاحق السيدات”سعيدأبوبكر” الذى يقف ملتصقا خلف نجمة السينما معلنا أن {الجو حلو أوى} ويحاول الأرستقراطى حماية النجمة من أفعال هذا المتحرش بعد التعرف عليها ويسألها{مفيش أفلام} فترد عليه بعصبية{فيه أفلام بس مفيش أخلاق} .
وهكذا فى ظل هذه المجموعة التى جمعت بينها الصدفة والتى كان من الممكن فى ظروف طبيعية ألايستغرق لقاءها سوى دقائق قليلة، ويذهب كل منهم إلى حال سبيله، لكن يتعطل المصعد الذى جمعهم فجأة، ويرتبك الجميع ويصرخون على حراس العمارة المنهمكين فى متابعة مبارة الكرة، وتتوالى ردود الأفعال، لص الخزائن يصرخ {هما راحوا فى أنهى داهية حايخربوا بيتنا} ويبدو الأرستقراطى منزعج لعدم وجود مكيف هواء، ونجمة السينما تبحث عن كلبها…ويصل الإرتباك ذروته حين يحذر المجنون الهارب الجميع{فيه واحد مجنون ولازم ناخد بالنا منه} مشيرا إلى الأرستقراطى المتحذلق فيتباعد الكل عنه.
وهنا يستغل السيناريو سلوك الشخصيات فتاة صغيرة”زيزى مصطفى” تسأل عن الساعة فيخرج النشال من جيبه مجموعة من الساعات المسروقة بالطبع فتفزع الفتاة {يادى المصيبة المعاد قرب} ويرد عليها المجنون {ايوه معادنا كلنا}، وتصرخ نجمة السينما فى عصبية، والزوجة الخائنة تنهر عشيقها، والارستقراطى يكتشف سرقةمحفظته مدعيا أن بها ألف جنيه فيكشف النشال كذبه فلا يوجد بها سوى ١٧٠ قرشا، ويخطف المجنون صينية الطعام ويأكل مابها، والرجل العجوز يكاد أن يختنق من شدة الحر، وتتوجع السيدة الحامل بشدة وتكاد تقترب من حالة الولادة ، وهكذا تأتى لحظة المواجهة الحقيقية فالموت قادم لامحالة فالجو أصبح خانق داخل هذه المساحة الضيقة، فيبدأ البعض فى محاسبة النفس والندم فى إنتظار لحظة الموت .
وبرغم مأساوية اللحظة ودلالاتها على المستوى الفردى والجماعى ، ورغم ملامح التراجيدية الواضحة إلا أن الكاتب نجيب محفوظ إستطاع فرض الأسلوب الكوميدى اللاذع والساخر، كمؤلف روائى على دراية بالدراما وكيفية تفجير الصراع من خلال قدرة السيناريو فى خلق المواقف المركبة والتى سبق تقديمها مع بداية الأحداث، ومعتمدا على المفارقات اللفظية فى الحوار أو على التناقض بين مصالح الشخصيات المختلفة فيزداد الأمر تعقيدا عن طريق المواقف المركبة التى تبين مشهد تصوير فيلما بالعمارة يفترض أن به مطاردة بين أحد اللصوص والشرطة، فيضطر اللص لأن يلقى بنفسه من فوق سطوح العمارة، فى الوقت الذى يقف شابا فى محاولة للإنتحار أيضا من نفس المكان .
كما اتفق مع صديقته الصغيرة المحبوسة بالمصعد، وهناك رجال العصابة القلقين على زميلهم لص الخزائن حبيس المصعد أيضاً، وتتداخل الأطراف الثلاثة حيث تطلب الفتاة من الشرطة إنقاذ الشاب الذى سينتحر فتتحرك نحو الشاب محاولة إنقاذه، ويتصور رجال العصابة أن الكومبارس المرتدين ملابس الشرطة هم شرطة حقيقيون فيطلقون عليهم الرصاص فينكشف أمرهم ويقبض عليهم …يالها من مفارقات تتداخل بمنتهى الذكاء فتنبثق منها مواجهة حادة بين طبقتين الأولى آفلة تغرب شمسها ويمثلها الأرستقراطى المتأفف والمتذمر والثانية طبقة صاعدة تحاول ان تجد لها مكانا فى المجتمع بعد القهر وتتمثل فى الخادم الذى يشدو لزمن الحرية التى يعيشها .
ورغم الصعوبة فى إنتاج هذا النوع من الأفلام وطريقة معالجتها سينمائيا لأقتراب الفكرة من الشكل المسرحى، فقد تمكن صلاح أبو سيف بجرأته إستغلال المكان بإحترافية، كما تمكن من تجنب السقوط فى الملل. الذى أحيانا مايصاحب هذا النوع من الأفلام، بإستخدام إيقاع سريع ملئ بالحيوية، بحيث لاوجود لبطولة مطلقة ، فقدم التمثيل مدرسة حقيقية فى الأداء تحسب للمخرج أولا وللممثلين ثانيا، فكان اختيار فريق العمل يتضمن مجموعة من أكفأ الممثلين وليس ألمعهم وأكثرهم شهرة، فمعظمهم من كبار ممثلى السينما والمسرح .
بين السماء والأرض وراءه فرسان ثلاثة هما أبوسيف ومحفوظ والسيد بدير ترافقهما موسيقى فؤاد الظاهرى، عن قصة كاشفة تم تقديمها بحرفية عالية، لتكون فيلماً من الكلاسيكيات الهادفة يجمع خفة الكوميديا والدراما الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية، حينما يقدم لنا حكاية بسيطة وعميقة في الوقت ذاته بطلها {مصعد كهربائي}، في إحدى البنايات، من خلال النقد الاجتماعي لكثير من المظاهر الاجتماعية والسياسية في قالب ساخر، تمتزج فيه مرارة الضحك، بعنصر {التشويق} البارع، إحدى خصائص صلاح أبو سيف.