في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها العاصمة الليبية طرابلس، تتسارع وتيرة التنافس بين الجهات الأمنية المتعددة الولاءات، والتي تُشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الهش في المدينة. يأتي هذا التنافس في سياق الحاجة الملحة لإنهاء التواجد المسلح هناك، والذي يعتبر ركيزة أساسية لتقدم العملية السياسية المعطلة منذ سنوات، وترتبط بشكل كبير بحصر السلاح تحت سيطرة الحكومة الجديدة.
أعلن وزير الداخلية الليبي، اللواء عماد الطرابلسي، عن تحقيق اتفاق لإخلاء العاصمة طرابلس من المجموعات المسلحة، وعودتها إلى مقراتها وثكناتها. خلال مؤتمر صحفي في 21 فبراير 2024، أكد الطرابلسي أن المفاوضات والمشاورات التي استمرت لأكثر من شهر أسفرت عن “اتفاق مع الأجهزة الأمنية لإخلاء العاصمة طرابلس بالكامل خلال المدة القادمة”.
وأوضح الوزير أن الإخلاء سيشمل “عناصر الشرطة والنجدة والبحث الجنائي”، وهي أجهزة نظامية تتبع وزارة الداخلية. كما أشار إلى أنه سيتم إعادة جميع الأجهزة الأمنية، المعروفة بوصفها “الأمن العام ودعم الاستقرار والردع واللواء 111 و444 قتال وقوة دعم المديريات”، إلى مقراتها وثكناتها.
وفي تصريحه، ألمح الطرابلسي إلى أن هذا الاتفاق جاء بعد مفاوضات طويلة مع “الأجهزة الأمنية”، مُشيرًا إلى أن الاستعانة بها ستكون “فقط اضطراراً عندما تحتاجها مديرية أمن طرابلس لمهام دعم محددة”.
وعلى صعيد القرار العام بشأن إخلاء طرابلس، أشار الوزير إلى تفهم ودعم قادة تلك المجموعات المسلحة لهذه الخطة، وأكد: “بعد الانتهاء من طرابلس، سيتم إخلاء المدن كافة من المظاهر والتشكيلات والبوابات التي نشرتها تلك المجموعات”.
وبين الطرابلسي أن “هذه الخطة ليست موجهة ضد أحد”، معبرا عن أمله في أن تباشر عقب شهر رمضان الذي يصادف 11 مارس 2024 وفقا لتقديرات فلكية.
القرار وصف بالمفاجئ وغير المتوقع لأن الإعلان عنه من قبل وزير الداخلية الليبي جاء خلال مؤتمر صحفي مخصص لعرض تطورات جريمة قتل وقعت في العاصمة طرابلس أخيرا.
وقالت مديرية أمن طرابلس إن جماعة مسلحة مجهولة قتلت 10 أشخاص في 17 فبراير 2024، ومن بينهم عضوان من “دعم الاستقرار”، أحد أكبر وأبرز الأجهزة الأمنية في العاصمة.
وقد علقت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا على هذا الحادث، وترى أنه “يسلط الضوء على المخاوف التي أثارها المبعوث الأممي مرارا بشأن المخاطر الجسيمة التي يشكلها تنافس الجهات الأمنية التي لا تزال تهدد الأمن الهش في طرابلس”.
ورغم توقف المعارك الكبرى منذ وقف إطلاق النار عام 2020، لا تزال فصائل مختلفة تسيطر على مختلف الهيئات الحكومية والأمنية.
ويتكرر نشوب صراعات وجيزة في طرابلس منذ عام 2020 بين الجماعات المتنافسة لأسباب ترتبط أحيانا بالصراع السياسي الأكبر في البلاد للسيطرة على مقاليد الحكم.
وراهنا توجد تشكيلات مسلحة داخل العاصمة طرابلس وتمتلك سيارات وأسلحة ثقيلة ومتوسطة ولها ثكنات ومقرات داخلها في مناطق نفوذها، وأخرى على أطرافها.
تاريخ النزاع المسلح بين الفصائل
منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في عام 2011، شهدت ليبيا تعدد المجموعات المسلحة، وتم تسريح وحل بعضها تدريجيًا. ورغم هذا، تظل بعض تلك المجموعات نشطة، وتختلف نسبة النفوذ والقوة بينها، خاصة في العاصمة طرابلس.
حتى العام 2012، كان هناك حوالي 30 مجموعة مسلحة في طرابلس فقط. لكن حرب حفتر المدعومة من الإمارات وروسيا على طرابلس، التي اندلعت في أبريل/نيسان 2019، أدت إلى تغيير كامل في المشهد الأمني بعد انتهائها في يونيو/حزيران 2020.
على الرغم من انتهاء الحرب، لم تتوقف الصراعات بين تلك المجموعات عن المناطق والنفوذ، مما أدى إلى توسع بعضها على حساب الآخر، خاصة بعد تولي حكومة الوحدة الوطنية مقاليد السلطة في مارس/آذار 2021.
أحداث عنيفة أدت إلى خروج إحدى أبرز المجموعات المسلحة، وهي “كتيبة ثوار طرابلس”، من العاصمة عام 2022 بعد معارك مع “قوة الردع الخاصة” التي تتبع وزارة الداخلية.
التشكيلات المسلحة الحالية في طرابلس ناتجة عن فصائل شاركت في معارك ضد قوات نظام القذافي، وتغيرت بعد ذلك في هيكلها وأسمائها ومواقعها بعد اندلاع نزاع على السلطة.
من بين هذه التشكيلات: “جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب” الذي يتبع لوزارة الداخلية ويسيطر على مؤسسات حيوية متعددة. “اللواء 444 قتال”، وهو لواء تأسس بعد هزيمة قوات حفتر في حربها على طرابلس. “جهاز دعم الاستقرار” الذي أُسس بقرار من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، ويعنى بحماية المقرات الرسمية وتأمين المناسبات الرسمية. “جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية” الذي أُنشئ في يوليو/تموز 2018 ويتبع وزارة الداخلية. “كتيبة فرسان جنزور” التي تسيطر على الضاحية الغربية لطرابلس. وأخيرًا، “القوى الوطنية المتحركة”، التحالف لكتائب العرق الأمازيغي، الذي أُسس عام 2012 وينتشر بشكل رئيسي في منطقة السراج شرق طرابلس.
تعد إعادة طرح فكرة إخلاء العاصمة الليبية من المجموعات المسلحة في هذا التوقيت تحديًا طال انتظاره، حيث يشدد المراقبون على ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم وجاد يسهم في إنهاء هذه المظاهر المقلقة.
إنسحاب أم تسوية شاملة
ويبقى السؤال الأكبر حول نجاح العملية، خاصة مع تساؤلات بعض الأفراد حول وجهة المجموعات المسلحة، هل ستنسحب أم ستتم تسوية؟
تجدر الإشارة إلى أن هذا الاستفهام يعتبر مبكرًا وغير مناسب حاليًا، حسب تحليلات المختصين، وذلك بسبب تعثر الحل السياسي، خاصةً مع تبعية تلك التشكيلات العسكرية لمختلف الأطراف السياسية في ليبيا.
فالاتفاق السياسي الليبي الذي تم التوصل إليه منذ سنوات تضمن ترتيبات أمنية بشأن وجود المجموعات المسلحة في طرابلس، ولكن لم يتم تنفيذ هذا الاتفاق من قبل الحكومة الليبية السابقة ولا حتى اليوم.
يرون المراقبون أن إخلاء العاصمة من المجموعات المسلحة يتطلب حوارًا طويلًا، نظرًا لاختلاف انتماءات وولاءات هذه التشكيلات المتنوعة.
توترات تحدث في بعض مناطق التماس بين تلك التشكيلات في طرابلس نتيجة لأخطاء فردية قد تؤدي إلى اشتباكات كبيرة، وهو ما يجعل العملية أكثر تعقيدًا.
تربط بعض الخبراء تقدم هذه الخطوة بنجاح العملية السياسية المعطلة في ليبيا، حيث يعتبر الوضع الأمني الهش عائقًا لتقدمها.
وبما أن هناك تشكيلات مسلحة تدعم حكومة الوحدة الوطنية وأخرى تنتمي للمجلس الرئاسي وأخرى لوزارة الدفاع، فإن غياب آلية تنفيذية لاتفاق إخلاء العاصمة يثير شكوكًا حول جدية هذه الخطوة.