كتب: إميل أمين
“لقد أخطأ الغرب حينما صور في الماضي العرب والمسلمين على أنهم بدو وصحراء وإبل وتعدد زوجات وحريم فاختزل بذلك الإسلام والجهاد الإسلامي في مقولة التطرف الإرهابي الديني مجاوزا للحقيقة فالعنف والإرهاب والظلم هي ظواهر إنسانية موجودة في العالم الإسلامي كما في بقية العوالم والعواصم غير الإسلامية”.
هكذا يجمل هذا المستشرق والمفكر الأمريكي في شهادة عادلة غير مجروحة واقع حال كثير من بقاع وأصقاع الغرب اليوم والذي يشهد اضطرادا غير مسبوق في هجومه على الإسلام فكرا وعقيدة ، فمن مايكل سافادج في أمريكا وبرامجه الإعلامية المهاجمة للإسلام مرورا بأخر فيلم من نتاج جماعات المحافظين الجدد يؤجج المشاعر ضد كل ما هو إسلامي ويعطي صورة مغلوطة قلبا وقالبا عن الدين الحنيف ، وصولا إلى إعادة نشر الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول وختاما بالفيلم الهولندي الممسوخ يتساءل المرء كم نحن في حاجة إلى رجال من أوزان اسبوسيتو للرد على ألقاصي والداني من هولاء.. ماذا عن الاستشراق وعن اسبوسيتو المستشرق بادئ بدء ؟
الشرق في ذهنية مفكري الغرب
يبقى الاستشراق ORIENTALISM تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافاتهم وتاريخهم ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته، ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة معبرًا عن الخلفية الفكرية للجدل الحضاري القائم بينهما.
وربما يكون من الصعوبة بمكان تحديد بداية للاستشراق إذ أن بعض المؤرخين يعودون به إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس، في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني للهجرة وأنه نشط في الشام بواسطة القديس يوحنا الدمشقي JOHN OF DAMACUS .
والحقيقة هي أن حديث الاستشراق هو حديث ذي شجون ذلك لأن الدور الذي قام به غالبية المستشرقون في الغالب إنما كان عاملاً بشكل كبير في تخريب العلاقة بين الشرق والغرب، في مواقع ومواضع كثيرة حتى أن آراء هؤلاء غير المنصفة في كثير من الأحيان لم تكن مجرد سطور في بطون الكتب ولكنها أضحت حقائق حياتية، ذات أثر ملموس في وجدان الرجل العادي في الغرب.
ويقول الدكتور “إدوار سعيد” في هذا الإطار “تطغى هذه الآراء المعاصرة للمستشرقين على الصحافة والعقل الشعبي فالعرب يصورون راكبي جمال، إرهابيين، معقوفي الأنوف شهوانيين شرهين تمثل ثروتهم غير المستحقة إهانة للحضارة الحقيقية.
وإذا كان من بين المستشرقين الكثيرين الذين تجنوا على العالم الإسلامي بشكل كامل وبصورة غير موضوعية فإن هناك أصواتا كثيرة ظلت على موضوعيتها وحيادها وكانت عن حق جسرًا بين العالمين الإسلامي والمسيحي وبين الشرق والغرب ومن بين الأصوات يعلو صوت “جون اسبوستو” وهو على خلاف المعروف في الأوساط الإعلامية العربية ليس راهبًا كاثوليكيا بل أنه علماني أي ليس من رجال الاكليروس، ومن الذين يقومون على الحوار وهو مؤسس مركز الحوار الإسلامي المسيحي في إحدى أكبر وأعرق الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية جامعة “جورج تاون” في واشنطن.
“اسبوسيتو” وتفريغ حتمية التصادم
وربما يكون في الأمر من مصادفات القدر ما يضحك أو يبكي ذلك لأنه في الوقت الذي كان فيه اسبوستو يؤسس مركزه كان صوت هنتجتون أحد الأعداء الأشداء للعالمين العربي والإسلامي يؤكد ويشدد على أن الإسلام هو أحد الأعداء الرئيسيين للغرب ويرى أن التحدي الإسلامي، يتجلى في الأصولية الإسلامية ووفقًا لهنتجتون فإن بضع تحالفات تشكل التحدي الأكبر للمصالح والقيم الغربية وعلى رأسها الارتباط الإسلامي ـ الكونفوشيوسي أي العربي ـ الصيني الذي هو في نظره مؤامرة بين ثقافتين ساخطتين لتقويض قوة الغرب عن طريق تدفق للأسلحة والتكنولوجيا من الصين الكونفوشسية على بلدان إسلامية.
وفي الحق انه إذا خلينا الحديث عن الصين وحضارتها الكونفوشسية جانبًا يبقى لدينا تساؤل هنتجتون هل يمثل الإسلام تحديًا أعظم للحضارة الغربية التي يرى بشكل أو بأخر أنها مسيحية في الجزء الأعم منها؟
أحسب أن جون اسبوستو قد تكفل عبر كتاباته وفعاليات مركزه ومن خلال العديد من الأوراق الثقافية القيمة التي قام عليها بالرد على مثل هذا التساؤل.
يُعد الرجل واحدًا من أشهر وأهم الأساتذة والباحثين الأمريكيين في العقدين الأخيرين في الولايات المتحدة الأمريكية والذي دارت أعماله حول الإسلام والمسلمين حتى أنه هناك شبه إجماع على أن دراساته تتسم بكثير من الموضوعية، لدرجة أنه أضحى نموذجًا فريدًا من نماذج العلماء الذين استهدفت دراساتهم الوصول إلى حقيقة الدين الإسلامي ناهيك عن بحثه في طبيعة ودوافع وتوجهات الحركات الإسلامية الإحيائية وقد ركز كل جهوده من خلال عمله كأستاذ للأديان والعلاقات الدولية في جورج تاون للخروج بالاطروحات الأكاديمية إلي منتديات الحوار من خلال مركز التفاهم الإسلامي المسيحي موجهًا النشاط البحثي هناك لخدمة التقارب بين الإسلام والغرب.
قدم اسبوستو ستة كتب تناولت الإسلام من جوانب شتى كان من أهمها “التهديد الإسلامي أسطورة أم حقيقة؟” والدافع من وراء كتابته لهذا العمل على حد شرحه هو تفريغ الحتمية التصادمية التي تقول بضرورة المواجهة الإسلامية المرتقبة مع الغرب من محتواها على أسس من البحث العلمي السليم والتأصيل للمرض لا الحكم على العرض من خلال فهم واع لجذور الإسلام كدين ولظاهرة الحراك الإسلامي في القرن العشرين.
والمؤكد أنه حينما طل اسبوستو على العالم من نافذ مركز الحوار والتفاهم كان المشهد الأمريكي الداخلي مأساوي ولاسيما في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والذي لا يمكن اختزال الفهم المغلوط للإسلام والمسلمين في القول أنه كان من جراءه بدليل وجود اطروحات سلبية مشابهة لأطروحة هنتجتون وإن كانت لم تحظ بنفس البريق الإعلامي فهناك على سبيل المثال أقوال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه “اقتنص الفرصة SEIZE THE MOMEST وهو تكرار لنفس النهج الذي يحذر من تزايد عد سكان العالم الإسلامي إضافة إلى وجود عائد ضخم من الثروة بين أيديهم لذا فإن الغرب يجد نفسه مضطرًا لعقد حلف جديد مع ما تبقى من الإمبراطورية السوفيتية لمواجهة عالم إسلامي معاد ومعتد فالإسلام والغرب حسب تصور نيكسون متناقضان ومتباينان.
في مواجهة إعلام غير محايد
أما عن واقع الإعلام الأمريكي فحدث عنه ولا حرج، إذ أصبح لا هم له صباح مساء كل يوم إلا الحديث عن العدو الأخضر الزاحف على بلاد العم سام “دار الحرب” بالنسبة له والذي يريد تدميرها حيث أنها تمثل بالنسبة له ديار الكفر وأنه لا طائل من الحوارات والنقاشات مع العرب أو المسلمين وعلى الغرب أن يعد العدة لمواجهة عسكرية شاملة مما حدا بالكثيرين لان يعيدوا على الأذهان ذكريات أليمة تمثلت في أيام حروب الفرنجة.
والمثير هنا جهة “جون اسبوستو” أنه قد استطاع الوقوف في وجه هذه الهجمة الفكرية على كل ما هو إسلامي واصفًا كتابات هنتجتون واطروحات برنارد لويس بأنها جاءت عاجزة عن تعليل وتفسير التجربة الإسلامية وأنها لم ترو القصة بجوانبها كافة وإن كانت قد ألقت بعض الضوء على كثير من جوانب وتاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب لذا فإن هذا الضوء من وجهة نظره “جاء باهتا طامسًا أو مشوهًا للصورة الكاملة ولم يوضح منها شيئًا بل أنها تسببت في اختزال الإسلام وحركة الأحياء الإسلامي إلى مجرد صور نمطية لإسلام معاد للغرب أو للحرب التي يخوضها الإسلام ضد الحداثة، أو للغضب والتطرف والتعصب والإرهاب.
وقد تخطى اسبوستو مرحلة التصريحات الكلامية إلى الواقع العملي ففي أبريل “نيسان” من عام 2000م كان يرعى بمشاركة مؤسسة الدراسات والبحوث في واشنطن والتي تقوم على تعزيز قيم التسامح والعيش المشترك بين الأديان مؤتمرا بعنوان “أمريكا والإسلام في مطلع الألفية” ولم يسلم يومها اسبوستو من السهام التي وجهت إليه والانتقادات الصحفية لمركز التفاهم الذي يرأسه فكيف له أن يشارك مركزًا إسلاميًا أصوليًا من وجهة نظر جمهور كبير من المغالين من التيارات اليمينية الأصولية على اختلاف مللها ونحلها داخل المجتمع الأمريكي؟.
والحق أن الرجل كان موضوعيًا عندما تساءل متحديًا أولئك المهاجمين للإسلام والمسلمين وعلى رأسهم برنارد لويس حينما قال: هل يمكن أن نتسامح إزاء إطلاق تعميمات مماثلة عند تحليل وتفسير تصرفات ودوافع الغرب؟ وكيف ستكون نظرتنا للمقالات التي تتحدث عن جذور الغضب المسيحي أو الغضب اليهودي؟ وعن القنبلة المسيحية أو القنبلة اليهودية.
من يضع الغشاوة على العيون؟
يعيب اسبوستو أشد ما يعيب على التحليل الانتقائي الغربي المتعصب لبعض المشاهد في حياة العرب والمسلمين والتي يريد البعض هناك أن يجعل منها الجامع المانع والأمر الذي يصيب كبد الحقيقة وعن زيف لا عن حق، حتى أنه يعلق غير مرة بقوله “أن الأمر أصبح بمثابة فرض غشاؤة من الجهل على رؤية الغرب للإسلام وللحضارة الإسلامية وإذا كان الكثيرون من كتابنا العرب ومثقفينا يقولون بأن وهم نظرية المؤامرة هو المحرك الرئيسي لأفعالنا التي هي ردود أفعال في واقع الأمر، وليست أفعال بالمعنى الإيجابي الأوسع والأشمل فكيف يجيبون على رؤية اسبوستو الأمريكي الجنسية الكاثوليكي المذهب الذي يرى أن وراء محاولة إلباس الإسلام والمسلمين عباءة العدو الأخضر تقف أهداف سياسية يريد البعض خدمتها إلى جانب استراتيجيات عسكرية وأمنية يتطلعون إلى بسطها على كافة الأحوال ناهيك عن محاولة إرضاء الصهيونية العالمية ودعم الأهداف الإسرائيلية؟
ولا يقتصر الأمر على هذا بل أن اسبوستو يحاول أن يضع النقاط على الحروف جهة الدور الذي تقوم به إسرائيل ومن نهج نهجها من رجالات المراكز البحثية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى رأس هؤلاء برنارد لويس.
يقول لويس “لقد اعتاد المسلمون أن يفقدوا الكثير من الأرض عبر تاريخهم وتعودوا أيضًا نسيانها” في إشارة إلى الدولة العثمانية أيام استعادة الأوربيين لأراضيهم أو للأندلس التي استعادها كذلك ويكمل قائلاً لماذا لم يتمكنوا هؤلاء المسلمون من نسيان فلسطين؟
والإجابة عنده لأنها في يد اليهود وبالتالي فإن الأمر يُعد شكل من أشكال اللاسامية.
لذا فإن اسبوستو يحسب له أنه من الذين فكروا بعزم وعملوا بحزم من أجل إظهار الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام الصهيوني في تشويه صورة كل ما هو عربي ومسلم كما لفت الانتباه إلى أن إسرائيل حرصت على الدوام على إقناع الغرب بقدرتها على مواجهة ودفع الخطر الإسلامي وذلك بعدما سقطت حجتها السابقة، بأنها تقف سدًا منيعًا ضد انتشار الشيوعية، وبذلك التقت مصالح إسرائيل مع مصالح الولايات المتحدة في التضخيم والتخويف من الخطر الإسلامي وإضفاء الصفة العالمية عليه استدرارًا للمعونات وجذبا للدعم السياسي.
الإسلام والغرب واستبدال الأعداء
وفي قلب الاهتمامات التي أولاها اسبوستو اهتمامه كانت قضية “الإسلام والغرب” لاسيما وأنه ينطلق من أرضية كاثوليكية لها مرجعيات تتمثل في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي نفى أصلاً وجود مثل هذه العداوة أو القطيعة بين الإسلام وبين العالم الغربي بل حث الجميع على بلورة تعايش مشترك لكن أصحاب المصالح الخبيثة كانوا قد عقدوا العزم على جعل الإسلام بديلاً دينيًا وإيديولوجيًا يمثل خطرًا كامنا يحيق بالمسيحية أولا وبالحضارة الغربية ثانية، ووصل الأمر بهؤلاء ليرشحوه محل الشيوعية في عملية استبدال فاقعة للألوان يستعيضون فيها باللون الأخضر كرمز للإسلام والمسلمين عوضا عن اللون الأحمر الذي كان رمزا شهيرا للشيوعية والاتحاد السوفيتي سابقا .
والحاصل أن اسبوسيتو بدوره رفض من قناعات دينية وعقلانية ترشيح الإسلام باعتباره “العدو التاريخي” للغرب، كانت رؤية اسبوستو ولا تزال تستنهض همم الكتاب وتلفت أنظار المفكرين والساسة في الغرب إلى أن النظر إلى الإسلام نظرة مبتسرة جزئية على أنه “إمبراطورية الشر الجديدة” بعدما سقطت إمبراطورية الشر السوفيتية هو أمر غاية في الخطورة وكفيل بنسف العلاقات بين العالم الغربي والإسلام وربما يؤدي إلى قيام حرب عالمية باردة أو ساخنة جديدة أما البديل الذي يطرحه فإنه لابد أن يأخذ الغرب في حساباته أن الإسلام دين عالمي وفي ذات الوقت قوة إيديولوجية يعتنقها خمس سكان العالم تقريبًا مما يجعل له وزنه وأثره لذا فإن اسبوستو يدعو للقفز فوق الجزئيات وتحليلاتها أو التمسك بالقشور والطنطنة الممجوجة التي ترشح في الأذهان صورة نمطية مريحة بمعنى أن المسلم إرهابي وأن الإسلام دين الإرهابيين وهو ما يغني رجال المراكز البحثية عن التفكير العميق لاستجلاء حقائق الأمور والبحث في الدوافع وراء ظواهر الإرهاب وكذا فإن دعوته تمتد إلى تجاوز الافتراضات العلمانية الغربية المسبقة منعًا للوقوع في السقطات والتحيزات الأيديولوجية التي تزخر بها كثير من التحليلات السياسية التي تنطلق من الإيمان بوجود حتمي لعدو إسلامي.
كما أن اسبوستو يرى في أطروحات السياسي الأمريكي المحافظ والمرشح السابق للرئاسة الأمريكية باتريك بوكانان نموذج للفشل في إدراك الأسباب الحقيقية للخصومة بين الغرب والإسلام المعاصر ذلك لان بوكانان كعينة أمريكية يمينية يرى أن العقيدة الإسلامية عامل حاسم في حياة الإسلام والمسلمين لذا فإن الإسلام نضالي حركي وينمو بصورة كبيرة بين أتباعه وأن المحاربين المسلمين مستعدون لمواجهة الهزيمة والموت بينما يتحاشى الغرب تكبد الخسائر في صفوفه لذا فإن العالم الإسلامي كما يدعي مقبل لا محالة على الاشتباك مع الغرب وما من مفر أمام أوربا وأمريكا سوى المواجهة العسكرية ومهما كلفت لا يهم كم نقتل ولا حجم الخسارة التي سنلحقها بالخصم. ولا ينسى بوكانان كذلك الربط بين النمو السكاني المتزايد في العواصم العربية والإسلامية وبين ما يسميه التطرف الإسلامي الذي لا يقارن إلا بنفس الزيادة السكانية في الصين المواكبة للتطرف أو المد الكونفوشيوسي.
ونخلص من قراءات مطولة للرجل إلى أن الأسباب الحقيقية للصراع والمواجهة ليست بين الشرق والغرب من منطلق أن الأول إسلامي والثاني مسيحي بل لأن هناك تضارب جدي في المصالح بين الطرفين منها ما هو اقتصادي واجتماعي في حين يأتي على رأسها تصارع في المصالح السياسية.
لماذا تشوهت العلاقة بين الشرق والغرب؟
ومن هنا فإن اسبوستو يرفض التوقف طويلاً أمام أحاديث من التي تركز على مسالة صدام الحضارات وخصومة التاريخ ويذهب في صدق وواقعية نادرتان إلى تحديد عدة مشاهد جذرت للعداوة والبغضاء بين العرب والمسلمين، والعالم الغربي عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة منها على سبيل المثال:
- امتلاء الذاكرة الجمعية للعرب والمسلمين بمشاهد الاستعمار الغربي في البلاد العربية والإسلامية وإن كان الاستعمار قد حمل عصاه ورحل عسكريا إلا أنه لا يزال باسطا هيمنته السياسية من خلال سياسات لم تتوقف بعد تجعله في وضع صانع الأوامر في إطار من منظومة الأسياد والعبيد أما الآليات فتبدأ من مجلس الأمن الدولي مرورًا بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى آخر تلك المؤسسات الدولية التي تخدم هيمنة الغرب.
- خضوع السياسة الشرق أوسطية لرغبات وهيمنة إسرائيل على الولايات المتحدة مما يجعل من الأخيرة منحازة بشكل سافر لإسرائيل كما أنها على الدوام تغمض عينيها عن الممارسات الوحشية في فلسطين.
- مساندة الولايات المتحدة الأمريكية للانظمة الاستبدادية القمعية رغم تصاعد المد الشعبي ضدها مثلما حدث من قبل في إيران والسودان.
- الفشل في وضع خط فاصل بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة.
ويبلور “اسبوستو” فهما أوسع لتصاعد العنف في العالم الإسلامي ولاسيما بعد انتهاء المواجهة بين القطبين الكبيرين الروسي والأمريكي وهو هنا يتفق مع جمهور من المفكرين والباحثين الذين رأوا في الضغوط التي يمارسها النظام العالمي الجديد والتحديات التي تفرضها العولمة على الكيانات الوطنية والحضارية سببًا رئيسيًا في تحول نشاط الجماعات الإسلامية من مواجهة الأنظمة الحاكمة المستبدة، والموالية غالبًا للولايات المتحدة والغرب أو المغلوبة على أمرها إلى مواجهة عنيفة مع الغرب كرد فعل على السياسات الظالمة والمنحازة التي تُمارس ضد العرب والمسلمين في كل مكان.
وللبروفيسور “اسبوستو” دورًا فكريًا لا ينكر في الوقوف في وجه المقولة التي اصطلحها “هنتجتون” مقولة “الحدود الدموية للإسلام” وقد عدها أسطورة من ضمن تلك الأساطير التي يروج لها الغرب لذا فإنه يرى أن التحدي الحقيقي للغرب ليس في الإسلام ودمويته المزعومة ولكن في قدرته على التفهم الأفضل للتاريخ وأبعاد العلاقة بين الإسلام والغرب وفي ذات الوقت يرفض بسط مصطلح “الأصولية” بشكل سافر ومطلق على العالم الإسلامي أو المسلمين، ويرى أن الأصولية تعريف لا ينطبق إلا على عدد قليل من الأشخاص أو المنظمات الشرق أوسطية ويلفت الانتباه إلى أنه يتم غالبًا المساواة خطأ بين الأصوليين من ناحية وبين النشاط السياسي والتطرف والتعصب والإرهاب ومعاداة الولايات المتحدة من ناحية أخرى.
اسبوسيتو وخرافة التهديد الإسلامي
ويبقى التساؤل الأهم الذي تصدى اسبوستو للإجابة عليه هل هناك تهديد إسلامي للغرب أم أن مقولة التهديد هي مجرد أسطورة؟ ثم كيف رسمت هذه الصورة المغلوطة في أذهان الكثيرين من المفكرين الغربيين المعاصرين عن الإسلام والمسلمين؟
يقول “اسبوستو” السبب عائد إلى الحكومات ووسائل الإعلام والتقارير الصحفية والإعلامية المغلوطة لكنه يميط اللثام كذلك عن الدور الأعظم الذي لعبته إسرائيل وزعماءها في تضخيم الأصولية الإسلامية من أجل ضمان استمرار قناعة الغرب بأن إسرائيل ما زالت قيمة استراتيجية حيوية لمصالح أمريكا.
وفي محاضرة للبروفيسور اسبوستو في المجلس القومي للشئون الخارجية بالقاهرة أشار إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن لم يكن لديه قبل انتخابه أي فكرة عن العلاقات الدولية أو عن العالم العربي والإسلامي ومثله مثل أغلب الشعب الأمريكي كان يجهل كل ما يتعلق بالإسلام حتى استغل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليوحد بين الإرهاب والإسلام.
ولاسبوستو دراسة مستفيضة حول العوامل التي أعاقت جهود الغرب في القرن العشرين لتحليل الإسلام تحليلاً علميًا صحيحًا وهذه تحتاج إلى حديث آخر مطول، لكنه بحال من الأحوال يوقن بأن “العلمانية المطلقة” شلت قدرة الغرب بدرجة كبيرة على فهم طبيعة الإسلام بل وكثير من الأديان الأخرى حيث أدى تعريف الدين باعتباره نسقا للحياة الشخصية إلى حصره بطريقة مصطنعه في نطاق ضيق، بل وجعل العنف من طبيعته، وفي نفس الوقت نظر إلى العقيدة الدينية التي تخلط الدين بالسياسة على أنها عقيدة رجعية وقابلة للهوس والتعصب ومن ثم تشكل تهديدًا ملحوظًا للغرب.
والحاصل أن اسبوسيتو يمثل أهمية فائقة اليوم ليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية بل لكافة الغرب سيما بعد أن بات الرجل ممثلا لحامل الشفرات والقادر على فك ما يخيل لكثير من الدوائر الغربية انه ” طلاسم إرهاب أو إرهابيين” إن جاز التعبير ” وخير مثال على ذلك موقفه من مشهد كارثة طائرة “مصر للطيران” التي تحطمت قبالة السواحل الشرقية لنيويورك عام 1999م ويومها قال الأمريكيون إن مساعد قائد الطائرة الكابتن وليد البطوطي قد انتحر بالطائرة والدليل على ذلك تكراره عبارة توكلت على الله أكثر من مرة إلا أن اسبوستو وكعادة العلماء والرواة الثقات دعا لعدم الخلط بين السطح السياسي والعمق الثقافي وأعلن صراحة أن العبارة التي صدرت عن مساعد قائد الطائرة تؤدي المعنى المتضمن في تعبير الاستغاثة الذي يستخدمه الكاثوليك وهو “أغيثيني يا مريم” مشيرًا إلى أن هذا هو تصرف الإنسان الورع عمومًا في كل مكان.
اسبوسيتو …التعايش لا يزال ممكنا
والمقطوع به أن ” جون إل . اسبوسيتو” رغم الضباب الذي يلف علاقات الشرق بالغرب في الآونة الأخيرة وعلى الرغم من وباء الاسلاموفوبيا الذي يكاد أن يعم أرجاء المسكونة بأكملها يبقى متفائلا بان التعايش بين الإسلام والغرب ممكنا لا بل ومطلوبا ومرغوبا في الحال قبل الاستقبال .
ولهذا نراه يكتب مؤخرا يقول إنه بدلاً من الاستماع إلى صوت المتطرفين والتعامل معه كنموذج ممثل للعالم الإسلامي، أو الاكتفاء بآراء الخبراء والمتابعين لشؤون المسلمين، لماذا لا نتوجه مباشرة إلى تلك الغالبية الصامتة من المسلمين لاستطلاع رأيها واستكناه مواقفها دون واسطة أو تدخل؟
وتحقيقاً لهذا الغرض فقد طرح الرجل مجموعة من الأسئلة على المسلمين في مختلف بقاع العالم حول آرائهم الحقيقية ليخرج بخلاصة أساسية مفادها أنه عندما تُترك الكلمة للإحصاءات والبيانات ونعطيها الفرصة لتقود الخطاب وتتحكم فيه، بدل الانطباعات والأهواء، فإن الأمور تتضح بشكل لا يقبل الشك .
ونراه هنا يشير إلى الدراسة التي قام بها عبر مركز “الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي” داخل جامعة جورج تاون والتي جاءت تحت عنوان “من يتحدث باسم الإسلام؟ وما هو الرأي الحقيقي لمليار مسلم؟”، لتعكس مواقف حوالي 1.3 مليار مسلم.
وعنها يقول : لقد امتدت الدراسة على مدى ست سنوات قمنا خلالها بأبحاث متواصلة طالت أكثر من 50 ألف مستجوب يتوزعون على 35 بلدا تقطنها غالبية سكانية مسلمة أو تتوفر على أعداد كبيرة من المسلمين. ويُعتبر استطلاع الرأي الذي يمثل أكثر من 90% من السكان المسلمين في العالم، أول دراسة شاملة من نوعها تسعى إلى محاولة استطلاع آراء المسلمين ومعرفة مواقفهم إزاء عدد من القضايا العالمية. وتتحدى النتيجة النهائية للدراسة المقولات الكلاسيكية حول صراع الحضارات، أو حتمية المواجهة بين الإسلام والغرب، حتى في ظل الحروب الدائرة حالياً في أفغانستان والعراق. وفي بعض الأحيان خرجت الدراسة بنتائج مدهشة وغير متوقعة عندما أظهرت مثلاً أن المسلمين، شأنهم شأن الأمريكيين، يرفضون استهداف المدنيين ويعتبرون ذلك أمراً غير مبرر من الناحية الأخلاقية
السياسة وليس الفقر أو الدين
وكشفت الدراسة أن الذين يختارون العنف والتطرف كوسيلة للرد على خصومهم إنما دافعهم الأول والرئيس إلى ذلك هو السياسة، وليس الفقر أو التدين. والأكثر من ذلك أنه من بين 7% من المستجوبين الذين اعتبروا هجمات 11 سبتمبر مبررة، لم يعبر أي منهم عن كرهه للحريات الأمريكية ، بل بالعكس تماماً أظهرت الدراسة توقهم الجارف للحريات الغربية عامة والأمريكية خاصة. لكنهم في الوقت نفسه يعتبرون أن الولايات المتحدة، والعالم الغربي عموماً، يتبنى سياسة مزدوجة تقوم على الكيل بمكيالين تقف في وجه المسلمين وتحول دون رسمهم لمستقبلهم باستقلالية وحرية .
ولا شك أن الغرب – والحديث لاسبوسيتو – سيُسر كثيراً إذا ما عرف أنه من بين كل عشرة مسلمين هناك تسعة يتبنون آراء معتدلة، غير انه على الدوائر الغربية وبخاصة صناع القرار والأفكار أن يدركوا أن المسلمين يرون أن أفضل وسيلة ينتهجها الغرب لتحسين علاقاته مع مجتمعاتهم، هي تغيير تلك النظرة السلبية التي يحملها عن المسلمين وعن الإسلام، فضلاً عن إعادة النظر في سياساته الخارجية. ورغم تفاؤل اسبوسيتو فان موضوعيته ألزمته بالكشف عن الجانب السلبي الذي تبدى من تلك الدراسة وهو ما يشير إليه بوصفه “الأخبار غير السارة” وهي أن عدداً كبيراً من المسلمين الراديكاليين الذين يشكلون 7% من مجموع المسلمين مستعدون لارتكاب أعمال عنف ضد المدنيين وان هذه الفئة الأصولية ستواصل تحديها للغرب طالما ظل الشعور بالإقصاء السياسي والظلم مهيمناً على المسلمين.
وخلاصة رؤية اسبوسيتو يمكن أجمالها في القول أن الصراع بين المسلمين والغرب ليس حتمياً، وبأنه مرتبط بالسياسة أكثر منه بالدين. لكن ما لم يستمع صناع القرار مباشرة إلى الأشخاص العاديين ويتخلصوا من التصورات المغلوطة التي تتحكم في الإدراك، سيواصل المتطرفون على الجانبين معاً اكتساحهما لمواقع جديدة.