في عام 1985، تلقيت مكالمة من الصديق د. عبد الرحمن صبري الذي كان يعمل خبيرا اقتصاديا في سلطنة عمان يدعوني لزيارة السلطنة لبحث إمكانية قيامي بالإشراف على تنفيذ مشروع بحثي مهم.
كانت هذه اول مرة اسافر فيها الى سلطنة عمان والتقيت بالأستاذ محمد بن الزبير أحد القاربين من السلطان، والذي تولى وزارات السياحة والمالية ورئاسة الجامعة والمستشار الاقتصادي للسلطان. وعرفت منه ان السلطان قابوس يرغب في عمل دراسة ميدانية لأسماء التي يتسمى بها العرب الان ومدى ذيوع كل اسم وتعقب أصوله وتاريخه، وان يكون ناتج هذا العمل مجموعة مجلدات تحمل اسم موسوعة السلطان قابوس “للأسماء العربية”. وكان ردي على الفور ان هذا المجال ليس تخصصي العلمي، وكان الرد انهم يعرفون ذلك ولكنهم يثقون في قدرتي على تكون الفرق البحثية وإدارتها في عدة دول والتنسيق بين أنشطتها وتحقيق الأهداف المرجوة.
التقيت السلطان وشرح لي اهتمامه بالثقافة التي يعتبرها افصاحا عن أوضاع المجتمع واحوال الناس، وانه كلف وزارة التراث القومي والثقافة بعمل مسح وتجميع للأمثال الشعبية في مناطق السلطنة المختلفة، وكذلك جمع التراث الموسيقي الشعبي. وانه من خلال قراءاته وسفره الى الدول العربية استوقفه أسماء الأشخاص والعائلات، ولاحظ ان بعضها يرتبط بأسماء مدن ومناطق، وبعضها أسماء لنباتات وحيوانات. وان بعضها عربي اصيل له جذور في أسماء العرب في الجاهلية وعهود صدر الإسلام، وبعضها الآخر حديث انتقل الى العربية من الفارسية والتركية وبعض اللغات الأوروبية، وان انتشار بعض الأسماء ارتبط بالتطورات السياسية وقادة الدول وضرب مثلا بذلك بذيوع اسم “جمال” في الخمسينيات والستينيات نسبة الى الرئيس جمال عبد الناصر.
ويبدو انه كان قد وصله ترددي في تولي مسئولية هذا البحث، فقال ان البحث على هذا النحو ليس مجرد دراسة لغوية، وانما لها ابعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية.
اتذكر في هذه المناسبة انه دخل على غرفة الاجتماع شخصان كان أحدهما يحمل صينية كبيرة اقترب بها من السلطان فأشار عليه ان يبدأ بي فعندما اقترب مني حامل الصينية ترددت ولم اعرف ماذا يوجد في هذه الصينية وما هو المطلوب مني بالضبط. فقال السلطان متلطفا هذه حلوي عمانية وهي تأكل باليد، وحتى نكون كما تقولون في مصر “اكلنا عيش وملح معا”، اخذت قطعة من الحلوى وكان الرجل الثاني يحمل وعاء به ماء معد لغسل اليد، وفوط لتنشيفها. ويومها ودعني السلطان قائلا انه يجب ان تكون الأسماء التي يتم تجميعها ممثلة لأكبر عدد من البلاد العربية وانه يتوقع الانتهاء من هذه البحث وطبع الموسوعة في خمس سنوات.
قمت بتكوين الفريق الرئيسي من ثلاثة من خيرة أساتذة اللغة العربية وآدابها وهم الأستاذ فاروق شوشة و د. محمد السعيد بدوي و د. محمود فهمي حجازي. وعلى مدى خمس سنوات تم تنفيذ العمل، الذي ربما تتاح مناسبة اخري للحديث عنه تفصيلا. وخلال السنوات الخمس التالية قمنا بزيارة او اثنين الى السلطنة لمتابعة ما تحقق، وكان السلطان قابوس حريصا على الاجتماع بنا في كل زيارة.
تعددت الأماكن التي استقبلنا فيها، فشملت قصر الحكم في مدينة مسقط وهي العاصمة، ومزرعته الخاصة التي تحمل اسم “بهجة الأنظار” بنفس المدينة، وقصره بمدينة صلالة التي تعتبر العاصمة الثانية للدولة وتقع بمحافظة ظفار وهي المدينة التي ولد بها السلطان قابوس في نوفمبر 1940. وفي كل مرة كانت تدور أحاديث في مختلف الأمور، وكانت فرصة للتعرف بشكل مباشر على رؤيته وافكاره.
قال انه يؤمن فعلا بضرورة التوفيق بين الاصالة والمعاصرة، وانه لا تناقض اصيل بينهما وان العرب يستطيعون الانخراط في مجال الحداثة والحياة المعاصرة دون ان يتخلوا بالضرورة عن ما هو جوهري واساسي في تراثهم، وأعطى مثال بان التليفزيون العماني يبث في كل يوم مقاطع من الموسيقى العربية، ويبث أيضا في كل يوم مقاطع من الموسيقى الغربية والعالمية. وانه كما أنشئ فرقة للموسيقى العربية فقد أنشئ أوركسترا سيمفوني، وأضاف ان الدولة لا تفرض ذوقا واحدا على الناس بل تقدم لهم القديم والجديد بحيث يختار كل واحد ما يتذوقه ويستريح اليه.
وانه ينبغي احترام التنوعات الموجودة في المجتمع، وفي نفس الوقت العمل على تأكيده “المشتركات” التي تجمع بين كل العمانيين. وانه منذ توليه الحكم في يوليو 1970، كان حريصا على هذا المعنى فدعا العمانيين الذين اختلفوا مع والده واقاموا في الخارج الى العودة الى بلادهم، ودعا المعارضة المسلحة في ظفار الى إلقاء السلاح وانه يمد يده الى الجميع ويدعوهم للمشاركة في بناء “عمان الجديدة”. وقال انه لتأكيد هذا المعني فانه يقسم وقته بين مدينتي مسقط وصلالة، وان التليفزيون العماني كان يبث برامجه نصف ساعات اليوم من مسقط والنصف الآخر من صلالة.
كان السلطان قابوس يقوم بعدة رحلات في كل عام ينتقل فيها بسيارته يرافقه عدد من الوزراء والمسئولين، ويلتقى بالأعيان ورؤساء القبائل والشخصيات العامة في مختلف المحافظات والولايات، وعندما يقترب موكبه من أحد التجمعات يحرص على ان يقود سيارته بنفسه، ويجلس معهم على الارض لبحث مشاكلهم والاستجابة لهم وهي الرحلة التي لقبت برحلة “الخير والبركة”، وحرص على القيام بهذه الرحلة حتى منعه المرض فى السنوات الأخيرة من القيام بذلك.
كانت رؤية السلطان قابوس واضحة، ولم يدع الاحداث السياسية المتلاحقة تثنيه عن اهتماماته التنموية والثقافية. ومن مظاهر ذلك اننا انتهينا من اعداد الموسوعة وطبعها في نهاية عام 1990 وتصورت ان الغزو العراقي للكويت وما لحقه من احداث جسام في الخليج والمنطقة العربية باسرها سوف تأجل موعد تقديم النسخة الأولى من الموسوعة له، وخاب ظني وتلقينا دعوة للسفر الى مسقط في ديسمبر من هذا العام. فاستقبلنا بقصر الحكم لمقابلة السلطان، وشكرني وأعضاء الفريق على الانتهاء من العمل في الوقت المحدد. تبادلنا الكلمات الطيبة وكانت هذه آخر مرة التقيته فيها وآخر مرة زرت فيها هذه البلاد العزيزة.
رحم الله السلطان قابوس رحمة واسعة.