يقول تشرشل: “كلما زادت فترة تأملك الماضي، طالت فترة المستقبل التي تستطيع التنبؤ بها”، فيما يرى مالكوم إكس أن: “المستقبل ينتمي إلى هؤلاء الذين يعدّون له اليوم”.. فالجميع يتفق على أن المستقبل تصل بالحاضر ومتواصل مع الماضي.. لا ينفصل عنهما، فمن أراد امتلاك مستقبله، فعليه أن يخطط لذلك من اليوم، أو ربما من الأمس.
هذه السلسلة المتناظرة بين الماضي والمستقبل تشبه الكلمات، أو الأرقام التي تقرأ من الجهتين. تمامًا مثل تاريخ يوم 22/02/2022 سواء قرأته من اليمين أم من اليسار.. فالنتيجة واحدة.
لهذا لم تكن مصادفة، أن يتم اختيار هذا اليوم المميز، موعدًا لافتتاح هذا الصرح غير مسبوق في تاريخ المنطقة والعالم، ألا وهو “متحف المستقبل” في دبي.. وحتى تكتمل الصورة بهذا الترابط السريالي، تم بناء المتحف بمعمارية عربية تراثية.
وقد جاء اختيار الفنان الإماراتي مطر بن لاحج، للحروف العربية في إنجاز التصميم الخارجي للمتحف إشارة لها معناها في أن الإمارات العربية وهي تخطو نخو المستقبل إنما هي لا تنسلخ عن ثقافتها ولا عن عروبتها، فالعرب جزء أصيل ومتجذّر في بناء الحضارة الإنسانية، وكان استخدامه خط الثلث المعروف بصعوبته، وإبداعيته في نفس الوقت، إضارة أخرى على أن الإمارات لا تعجزها التعقيدات.
التصميم على هذا النحو من الإبداع جاء مكانه وسط ناطحات سحاب دبي، ليشكل تحفة فنية، بجوار أقرانه من التحف المعمارية الأخرى ليعطي انطباعاً بصرياً مفعماً بالرسائل الداخلية والخارجية تتلخص في أنه ليس كل ما هو حضاري ومستقبلي بالضرورة أن يكون غربي الطابع أوالهوية، نحن بتاريخنا وثقافتنا، قادرون على رسم المستقبل الذي لا يحق لأحد أن يحتكره أويصوره بفكره وثقافته فقط.. كلنا شركاء في بناء المستقبل لما فيه الخير للإنسانية.
هذه الرسالة هي أيضاً رسالة استنهاض للشباب العربي، ليعتز بتاريخه وإرثه الثقافي الذي يخوله لأن يكون جزءاً أصيلا من كل العصور، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها.
محمد الحبسي الباحث بهيئة الثقافة في دبي، كانت له رؤيته المختلفة أيضًا في الفكرة، إذ أوضح لنا أن المتحف بحسب رؤيته يؤصل لكلمات الشيخ زايد -رحمه الله- المحفورة في وجدان الشعب الإماراتي، والتي قال فيها إن: “من ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل”.. ومن هنا كانت الرسالة، بأن تخصص المتحف في المستقبل، لكنه في النهاية “متحف” مرتبط بتاريخ، وأصالة هذه المنطقة.
أطلقنا اليوم بحمدالله معلماً علمياً ومعرفياً عالمياً … متحف المستقبل .. الأجمل في العالم في المعني والمبنى .. أداة لاستشراف مستقبلنا .. وحاضنة لأفكار شبابنا .. ومؤسسة لترسيخ معارفنا .. صرح سيتعدى أثره الإمارات والمنطقة بإذن الله لسنوات عديدة قادمة pic.twitter.com/X4Z0wuHaAK
— HH Sheikh Mohammed (@HHShkMohd) February 22, 2022
“الحبسي” حل لنا أيضا معضلة الجمع بين كلمتين، كانتا لفترة طويلة متناقضتين، وهما “متحف” و”مستقبل” أو على الأقل يصعب وجودهما في سياق واحد.. فهو يرى أن الإمارات انتهجت، منذ فترة، فكرة الانتقال بتجربة المتاحف إلى الإقناع والإمتاع، فالإقناع يأتي من أهمية المعروضات وندرتها وقيمتها، فيما الإمتاع يأتي من طريقة العرض، والأنشطة المصاحبة, ومتحف المستقبل، بحسب رؤيته، هو النتاج الطبيعي لثورة الإقناع والإمتاع التي انتهجتها متاحف الإمارات.
غير أنه نقل فكرة المتاحف إلى نهج جديد على مستوى العالم، جعل المختصين يبحثون عن تعريف جديد للمتاحف يواكب هذه النقلة الفكرية.. ولكن هل لمتحف المستقبل دور مجتمعي حقيقي في استشراف المستقبل، أم مجرد حاضرة معمارية جديدة، تضاف لمعماريات دبي الشهيرة؟
هذا ما أوضحه لنا الدكتور محمد عبد الظاهر مدير عام مؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعي للبحث والاستشراف في دبي AIJRF”” وأستاذ الإعلام والذكاء الاصطناعي بكلية الخوارزمي الدولية الذي أكد أنه لا يمكن أن نغفل كون المتحف، من حيث العمارة، أيقونة معمارية استطاعت دبي من خلاله توظيف العديد من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، من حيث الاعتماد على الطباعة ثلاثية الأبعاد، ومواد أكثر استدامة في البناء.
غير أنه في الوقت ذاته بدأ فعليا بالتحول ليكون مساحة للإبداع التكنولوجي، والابتكار في تقنيات المستقبل، آخرها احتضانه الأسبوع الماضي الملتقى الدولي الأول للميتا فيرس والذي شاركت فيه كبرى الشركات العالمية المهتمة بهذا المجال، بوضع حجر الأساس لانطلاق هذا العالم من دولة الإمارات إلى المنطقة والعالم.
وعليه، فإن المتحف قد تحول بالفعل إلى وجهة ثقافية وابتكارية، يتكامل مع رؤية دولة الإمارات التي استحقت أن تكون من أهم الواجهات العالمية في الابتكار، وصناعة المستقبل، من خلال بنية تحتية على أعلى مستوى في مجال الاتصالات ومناطق حرة مبتكرة، والعديد من الحاضنات الثقافية والإبداعية.
هكذا، فإن متحف المستقبل على هذا النحو لهو بالفعل تحقيق للمعادلة الصعبة في الجمع بين الأزمنة داخل سياق متصل، كأنه كبسولة فضائية تعود بنا حضارياً وفكريا إلى زمن النهضة، ولكن بأدوات المستقبل التي يجب أن نبدأ بصناعتها اليوم، دون تأخير.
رامي المليجي
كاتب وصحفي متخصص في تكنولوجيا المعلومات