مشهد 1
الجميع بالغرفة ينتظر.. حالة من الترقب قبل أن يخرج الطبيب ليعلن وفاة فلذة كبدهم صاحب الخامسة والعشرين عامًا، ذهول عارم وصدمة كبيرة، أصوات بكاء تتشابك وأنفاس تتهدج من فرط الحسرة والألم، لم تمضٍ دقائق ويخرج الأب إلى الطبيب يخبره بأنه يجب وضع ابنه على جهاز للأكسجين، حتى يضخ الهواء إلى أعضائه التي مازالت تنبض بالحياة، ليس أملا في عودته إليها وإنما بسبب وصية لم يخبر بها أحد سواه وأمه، راغبًا في تنفيذها بعد وفاته، على أمل بثواب كبير وصدقة جارية على روحه.
مشهد 2
يخرج الطبيب معلنًا تأخر استلام جثة المتوفى قليلا حتى تنتهي إجراءات استئصال أعضاء من جسده كان قد طرح التبرع بها حال وفاته، في وصيته التي سجلها بالشهر العقاري، صدمة أخرى وذهول من الحضور، انفعال وتمتمة ثم ارتفاع أصوات تطالب بمنع الجريمة ومراعاة حُرمة الموتى، حالة تكاد تصل إلى الاشتباك بالأيدي لاستخلاص جثمان الفقيد من يد المشفى القابع به، إلا أن تدخل والده أربك الجميع بعدما صرخ آمرا: “سأنفذ وصية ابني”.
مشهد 3
أب ينظر إلى ابنته الممدة على سرير الموت بمشفى بعيد في أقاصي صعيد مصر، حالتها لم تعد جيدة على الإطلاق، نصف حية، تنتظر أن يأتي إليها ملك الموت بين لحظة وأخرى بعد تأخر عملية زراعة القلب الخاصة بها بسبب عدم وجود متبرع، الحزن يخيم على الأجواء فقط، لا أمل في شفائها حتى أن والدها قرر مع حلول الصباح التالي رفع أجهزة التنفس الصناعي عنها، رغبة منه في إنهاء حياتها خوفًا من عذاب مستمر، إلى أن يرن هاتفه ليخبره الطبيب بأنهم وجدوا لابنته متبرعًا، وأن العملية ستُجرى في أسرع وقت ممكن.
ليست مشاهد سينمائية تلك التي ذكرناها، وإنما واقع يعيشه كل يوم آلاف المرضي في جميع محافظات مصر، كثير ممن لم يجدوا متبرعًا لحالات يأس الأطباء في علاجها ولم يعد هناك سبيل سوى “زراعة الأعضاء” لانقاذهم من مصير مؤلم، فلم يستطيعوا سوى اللجوء إلى سماسرة تجارة الأعضاء، ليجدوا ما يبحثون عنه، إلا أن حملات أمنية مشددة ورصد بكاميرات وأقلام صحفية وتليفزيونية، رصدت خلال أعوام طويلة سابقة، عصابات التجارة بالأعضاء والمرتبطة بأخرى تمارس عمليات خطف واسعة لأطفال ونساء وشباب، تبدو عليهم أمارات الصحة الجيدة، ليتم ذبحهم واستئصال ما تبقى من أعضاء سليمة وبيعها بعشرات الألوف من الجنيهات.
منظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى دولية، هاجمت مصر ووصفتها بأنها مرتع لتجارة الأعضاء غير الشرعية، وهو نوع من الاتجار بالبشر -حسب تصنيف المنظمة الأممية-، حيث صنفتها كرابع دولة في العالم في ممارسة هذه الجريمة، في وقت سابق، وهو ما تسبب فى وضعها بالقائمة السوداء، ما يفرض عليها عقوبات دولية قادمة إن لم يتم تحسين الوضع، خاصة وأن النفي المستمر لوزارة الصحة لعمليات كشفتها مغامرات صحفية أو رقابية، يستدعي قلق المنظمات الدولية المهتمة بالوضع المصري.
قانون تنظيم زراعة الأعضاء البشرية
بعد هجوم دولي موسع على الوضع المصري، بعد انتشار تجارة الأعضاء المحرمة، شرعت الجهات الحكومية المسئولة، القانون رقم 5 لسنة 2010، والذى ينظم زراعة ونقل الأعضاء البشرية من الأحياء والمتوفين، إلا أنه لم يتم تطبيقه بعد بشكل كامل، وهناك محاولات لتعديله بمجلس النواب كل فترة.
وجاءت أبرز ملامح القانون كالتالي:
مادة (1): لا يجوز إجراء عمليات زرع الأعضاء أو أجزائها أو الأنسجة بنقل أى عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسم إنسان حى أو من جسم إنسان ميت بقصد رزعه فى جسم إنسان آخر إلا طبقًا لأحكام هذا القانون ولائحته التنفيذية والقرارات المنفذة له.
مادة (9): تنشأ لجنة عليا تسمى (اللجنة العليا لزرع الأعضاء البشرية) تكون لها الشخصية الاعتبارية تتبع رئيس مجلس الوزراء، ويصدر بتشكيلها وتنظيم عملها وتحديد مكافآت أعضائها ومعاونيهم قرار منه بناء على عرض وزير الصحة. ويتولى وزير الصحة رئاسة اللجنة ويعين أمانة فنية لها، وتتولى اللجنة إدارة وتنظيم عمليات زرع الأعضاء وأجزائها والأنسجة، وتحديد المنشآت التى يرخص لها بالزرع وكذلك الإشراف والرقابة عليها وفقًا لأحكام هذا القانون ولائحته التنفيذية والقرارات المنفذة له.
مادة (14): لا يجوز نقل أي عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسد ميت إلا بعد ثبوت الموت ثبوتًا يقينيًا تستحيل بعده عودته الى الحياة، ويكون إثبات ذلك بموجب قرار يصدر بإجماع الآراء من لجنة ثلاثية من الأطباء المتخصصين في أمراض أو جراحة المخ والأعصاب، أمراض أو جراحة القلب والأوعية الدموية، والتخدير أو الرعاية المركزة، تختارها اللجنة العليا لزرع الاعضاء البشرية، وذلك بعد أن تجري اللجنة الاختبارات الإكلينيكية والتأكيدية اللازمة للتحقق من ثبوت الموت، طبقًا للمعايير الطبية التي تحددها اللجنة العليا ويصدر بها قرار من وزير الصحة، وللجنة في سبيل أداء مهمتها أن تستعين بمن تراه من الأطباء المتخصصين علي سبيل الاستشارة. ولا يجوز أن يكون لأعضاء اللجنة علاقة مباشرة بعملية زرع الأعضاء أو الأنسجة، أو بمسئولية رعاية أي من المتلقين المحتملين.
أول حالة معلن عنها
يوم الجمعة 13 أكتوبر من العام 2017، أعلن الدكتور علي محروس رئيس الإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص وعضو اللجنة العليا لزراعة الأعضاء بوزارة الصحة وقتها، فتح الوزارة باب تلقي الوصايا الموثقة من الشهر العقارى لمن يرغب في التبرع بالأعضاء بعد وفاته، وكانت الحالة الأولى التي تبرعت بجسدها لمهندس من صعيد مصر في منتصف العقد الثالث من عمره، يُدعى يوسف حنا، سجل في الشهر العقاري وثيقة رسمية لتنازله عن أعضائه، ليقدمها إلى اللجنة المختصة بوزارة الصحة، إلا أن تصريحات نُسبت إلى رئيس “العلاج الحُر” أفادت بأن الوزارة ليس لديها أي بنوك لحفظ الأعضاء التي سيتم الحصول عليها من المتبرعين بعد الوفاة، كما أنه لم يتم تحديد أي مستشفيات يتم فيها الحصول على الأعضاء.
وتأتي تصريحات “محروس” مخالفة تمامًا لما نطق به سابقًا في تصريحات أخرى، أكدت أن هناك 52 مستشفى حاصلة على تراخيص زراعة الأعضاء، وأن وزارة الصحة قبل عامين كانت قد أعدت مستشفيات القصر العيني والمعادى العسكري، لتنفيذ هذا النظام.
الأطباء لا يعرفون شيئًا
رغم انتشار نبأ موافقة الصحة على قبول حالات التبرع بالأعضاء، بعد توثيقها بشكل رسمي في الشهر العقاري، إلا أن المسئولين بنقابة أطباء مصر، وهي الجهة المنوطة بحماية الأطباء والمساهمة في تشريع القوانين الخاصة بكل ما يخص المهنة وآدابها، أنكروا وقتها معرفتهم بموافقة رسمية على قانون التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، أثار ذلك حالة من الجدل والتساؤل حول إمكانية تحقيق هذا النظام في مصر، في ظل عدم جاهزية القطاع الطبي بأكمله لاستقبال أو تنفيذ حالة واحدة فقط، وتخوف الدكتور هاني مهنى، عضو مجلس نقابة الأطباء، من أن يستغل القانون الجديد ليصبح مدخلًا آخر لتجارة أعضاء بشرية رسمية.
وكان للدكتور نبيل عبد المقصود، مدير مستشفى قصر العيني الفرنساوي، رأي آخر، فرأى أنه سيعود بالخير على الجميع من مرضى ومنظومة صحية، ما يعد بمثابة خطوة ناجحة، بينما طالبت الدكتورة جيهان الخولي، نائب رئيس مستشفى قصر العيني التعليمي الجامعي، بتوضيح من المسئولين حول ما تم نشره، مضيفة أنه إذا اتخذت الدولة مثل هذا الأمر فلابد لها من تشريعات قوية تضمن ألا تتحول المسألة من مجرد فكرة لمحاربة تجارة الأعضاء وتوفير احتياجات المرضى، إلى تجارة أكبر في الأعضاء وبصيغة قانونية.
حالات تقدمت بطلبات للتبرع
لم يكن المهندس يوسف حنا الوحيد الذي أعلن عن تبرعه بأعضائه حال وفاته، لكنه كان الأول في توثيق عقد رسمي، إلا أن عشرات من الشباب المصري أقدموا على تلك الخطوة، “البلاغ” قابلتهم..
يقول عمرو طارق، صاحب السابعة والعشرين عامًا، ويعمل محاميًا، إن الفكرة ليست سيئة، ورغم تخوفه من آلية تطبيقها التي لم يعلن عنها بعد، إلا أنه متحمس بشكل كبير لها، مضيفا أنه اتخذ كافة الإجراءات القانونية لتسجيل وصيته، جهز الأوراق اللازمة، وكتب وصيته إلى أهله لتنفيذها عقب وفاته، لكنه لم يقدم بعد على التسجيل في الشهر العقاري، نظرًا لأنه لا يثق في كون أعضائه ستصل إلى مستحق أم ستُسرق مثلما سرقت مقدرات الوطن، حسب قوله.
ويشير الشاب العشريني إلى عدم ثقته في تنفيذ الدولة ممثلة في الحكومة لخطة جيدة، حيث إنها تعمل دائما عكس مصلحة المواطن، مؤكدًا أن أصدقاء مصريون له، سجلوا بالفعل للتبرع بأعضائهم عقب الوفاة، إلا أنهم أقدموا على ذلك خارج حدود الوطن، في دول عربية باتت أكثر تنظيما، ولا تدور حول حكومتها الشكوك في كونها فعلت قانون التبرع بالأعضاء، لتصبح تجارة رسمية.
يتابع: “لم أحظ قط بمثل تلك اللحظة منذ ثورة يناير، فكنت في صفوف الشباب المتحمس للتضحية بحياته من أجل الوطن، والآن بعد فقداني لأحلامي الثورية الوردية، قررت التبرع بما لدي فربما أموت قريبًا، وأصبح منقذًا لحياة واحدة أو حيوات عديدة”.
لم يكن “طارق” الشاب الوحيد الذي أعلن تبرعه، سبقه راعٍ لإحدى كنائس المنيا، وهو القس أيوب يوسف، والذي قال: ” أحببت أن أكون أول من يبدأ بذلك حتى يتشجع الناس ولا يخافون، وتكون مبادرة تساهم في مساعدة المرضى في مصر”، وأكد أن قرار التبرع قرار نهائي ولا تراجع فيه، وأنه لا مانع لديه من التبرع لأي شخص أيا كانت ديانته.
خلافات فقهية وفتوى بالإجازة
اشتعلت معركة فقهية بين القائمين على القانون وبين الفقهاء وعلماء الدين، خلال الفترة الماضية، ففريق معارض لمبدأ التبرع عقب الوفاة، بمجرد موت الخلايا الجذعية بالمخ، وكان على رأسه الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، والذي أكد تحريم الإسلام التبرع بأى عضو أو جزء من جسم الإنسان سواء من الأحياء أو الأموات، مضيفا أن موت الخلايا الجذعية أو الموت الإلكينيكي لا يعتبر موتًا، وإنما جزء مرحلي منه، ودلل برفض الشيخ محمد متولي الشعراوي لمسألة التبرع بالأعضاء، في حين تبنت دار الإفتاء المصرية وجهة النظر الحكومية، وأجازت التبرع بالأعضاء حيًا أو عقب الوفاة الحديثة، لاسيما أن قانون التبرع بالأعضاء سيساهم في تقليل الاعتداء على الأحياء، حسبما ذكرت الفتوى.
وكانت النائبة شيرين فراج قد تقدمت في يناير من العام الجاري، بمشروع قانون لتعديل مواد من قانون 2010 الخاص بالتبرع بالأعضاء وزراعتها، ونص القانون على استبدال نصوص المواد (5، و7، و8، و14، و26) من القانون رقم 5 لسنة 2010 بشأن زرع الأعضاء البشرية، بنصوص أخرى، وتنص المادة (5) الجديدة على وجوب أن يكون التبرع صادرًا عن إرادة حرة، وثابتًا بالكتابة الموثقة، ولا يعتد بأي موافقة غير موثقة، وذلك على النحو الذي تحدده اللائحة التنفيذية لهذا القانون، ولا يقبل التبرع من الطفل، ولا يعتد بموافقة أبويه أو من له الولاية أو الوصاية عليه، كما لا يقبل التبرع من عديم الأهلية أو ناقصها، ولا يعتد بموافقة من ينوب عنه أو من يمثله قانونًا.
فيما تنص المادة السابعة على أنه لا يجوز البدء في عملية النقل بقصد الزرع إلا بعد إحاطة كل من المتبرع والمتلقي – إذا كان مدركًا – بواسطة اللجنة الثلاثية المنصوص عليها في المادة (13) من هذا القانون بطبيعة عمليتي النقل والزرع ومخاطرهما المحتملة على المدى القريب أو البعيد، والحصول على الموافقة الموثقة للمتبرع، وكذلك موافقة المتلقي، وتحرر اللجنة محضرًا بذلك يوقع عليه المتبرع، ويرفق به الموافقة الموثقة الدالة على التبرع.
ويبقى التساؤل في النهاية: هل ستتحول تجارة الأعضاء إلى رسمية تديرها وزارة الصحة، أم ستنجح الخطة الرسمية في القضاء على الظاهرة؟ وكيف ستطبق الدولة مثل هذا القانون؟.