يبدأ الفيلم بذلك العائد الغريب المشتاق إلى أرض الأجداد، ينظر بلهفة لذلك السور الطيني الشاهق المحيط بالقرية، محاولا الدخول لهذا العالم يدفع الباب بقوة، يسير طارقًا كل الأبواب لكن أحدًا لم يستجب له، القرية خاوية من أي أثر للحياة، بدأ اليأس يتسرب إلى نفسه التواقة إلى الجذور فصرخ: “يا أهل هذه البلدة.. أجيبوني”، بكى، لكن سرعان ما ظهر الأمل متجسدًا في ذات الرداء الأسود التي هربت منه خوفًا، يهرول خلفها حتى وصل لدار الجدة والتي سرعان ما استقبلته مؤكدة أنها انتظرته فهو الفرع المهاجر الذي حان وقت عودته، لتبدأ في قص أصل الرواية على العائد إلى وطنه.
نرى رضوان الكاشف -سيناريست الفيلم ومخرجه-، وقد تعمق في الرمزية، خرج الفيلم إلى النور في العام 1999، الفيلم هام للغاية، ورغم عدم نجاحه الجماهيري وقت عرضه إلا أنه أصبح من أهم أفلام السينما المصرية بل العربية، حتى أن البعض دعاه بجوهرة ثمينة صنعها الكاشف ونجومه.
يرمز الفيلم إلى كثير من التحولات التي طرأت على المجتمع المصري في الفترة التي تلت حرب أكتوبر 1973، وخاصة بعد اتفاقية السلام و ما تلاها من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية جذرية على المجتمع المصري، خاصة بعد إعلان “السادات” ما أسماه بسياسة الانفتاح الاقتصادي، وبعد أن كانت مصر مركزًا للعمالة، العربية منها والأجنبية، طارت حمامات الوطن التعس إلى خارجه لتبحث عن لقمة العيش، خاصة إلى الخليج العربي الصاعد، ليعاني المصريون من تغريبه تعسة.
عرض الفيلم كيف أقنع الغريب الغامض كل رجالات القرية بالرحيل من أجل لقمة العيش، وكيف اتخذوا جميعًا قرارهم بالهجرة، تركوا الزراعة مهنة الجذور من أجل المجهول، تركوا نساء القرية تواجهن الغزو المتكرر وحدهن، رمز لذلك بـ” شفا” العروس التي تركها زوجها لكنها لم تستطع تحمل هجره طويلًا وتقع في شرك طبّال جاء للقرية مع فرقته للاحتفاء بسبوع مولودهم وتنتهي قصتها بالانتحار بعد أن وصمت نساء القرية، قصد الكاشف هنا الغزو الثقافي والاجتماعي الجديد وكيف لم تستطع مصر صده وقد غادر شبابها بحثًا عن لقمة العيش، قصد أيضًا البلدان العربية المحتلة التي وقعت تحت نير الاحتلال وتعاني وحدها.
يصور المخرج كيف أن الأرض العطشى تئن احتياجا لمن يرويها، من خلال تصويره لنساء القرية وقد أكلهن الشوق لأزواجهن، حتى إن العمة حاولت إغواء ابن أخيها لمضاجعتها، صُدم الفتى ورفض، كان الفتى أحمد علي هو الوحيد الذي اتخذ قراره بالبقاء في القرية مع جده العجوز، رمز أيضًا للأمل الذي يستطع الشباب منحه، كما مثلت شريهان رمز الحياة، ونرى أن “علي” يحاول طوال الفيلم تسلق النخلة للحصول على بلح الشفاء، أمله و كل نساء القرية العاطشات، لكنهن لم يرتوين، شرب الجد في النهاية ماء البلح وارتدى ملابسه وخرج للصحراء غاضبًا رمزًا لموته، يرمز الجد هنا للتاريخ الحزين الصامت.
في النهاية يأتي دور الآباء يعودون لقريتهم، ويقررون قتل الأمل لأنه أخطأ في طلب الحياة، أو كما صورها الكاشف، اتفقوا على خداعه وأوهموه بزواجه من ابنة عمه -التي حملت منه جنينًا- إذا تسلق النخلة ثانية، وما إن وصل أعلاها حتى اقتطعوها ليسقط ميتًا ويلحق بجده في ثياب بيض، ذلك أن كثير من المشكلات التي تعيشها الأمة نتيجة تخاذل جيل الآباء، ويرى كثير من النقاد أن هذا الفيلم صالح لكل زمان، فالأرض مازالت عطشى لمن يرويها، ومازال جيل الأبناء لا يجد فرصة تحتويه لبعث الأمل والحياة لمصر.