كنت أبكي بكاء غزيرا عندما كنت طفلا وأنا أشاهد مناسك الحج في التليفزيون، وأتحرق شوقا أن أقف أمام الكعبة المشرفة، وظل هذا البكاء يلازمني حتى تخرجت في الجامعة.
فور تخرجي وانتهائي من الخدمة العسكرية كضابط احتياط مقاتل بقوات الاقتحام الجوي، وهي الفرع الأقوى بقوات المظلات، كنت أتحرق شوقا لرؤية الكعبة المشرفة رأي العين، وآليت على نفسي بادخار جزء من راتبي الشهري لأداء العمرة ولو بعد سنوات.
وشاء الله أن يكرمني بعقد عمل في السعودية، متضمنا تحمل جهة السفر تذاكر الطيران، وثمن التأشيرة والرسوم كافة، وهاهو الحلم يتحقق باقتراب الصلاة في الحرم المكي.
جهزت أوراقي وأوراق زوجتي وسافرنا إلى جدة، وطلبت من جهة العمل منحي ثلاثة أيام لتدبير أموري من حيث السكن وغيره من الأمور المعيشية، فنزلت في فندق بمدينة جدة، وفي نفس الليلة سافرت ومعي زوجتي إلى مكة المكرمة، بكينا طويلا بكاء حارا فور دخولنا المسجد الحرام، ثم أدينا العمرة وفرحة غامرة بتحقيق حلم عمري بتقبيل الحجر الأسود.
في الصباح ذهبت للعمل، والتقيت بالزملاء، منهم سعوديون ومصريون وسودانيون وفلسطينيون وغيرهم، رحبوا بي، وأخبروني أنهم أجروا لي شقة بعمارة جميلة، وأعطتني جهة العمل إيجار الشقة لمدة عام كامل، ومبلغ إضافي لتجهيز الشقة.
وخلال يومين كنت قد استقررت بالعمل، وبدأت في استلام عملي، ووجدت تعاونا كبيرا من أشقائي السعوديين، من كرم فياض وشهامة ونخوة، لم أجدها من غيرهم، وبدأت الصلات تتوثق، وأدركت يقينا أنني لست مغتربا، بل في وطني بين أهلي وأصدقائي.
عندما قدمت للحصول على رخصة القيادة تعاملت مع إدارة المرور، رجال كرماء يرحبون بالجميع ويقدمون من التيسيرات الكثير، ثم حصلت على الرخصة واشتريت سيارة أحد الزملاء السعوديين، الذي باعها لي بسعر يقل عن سعر السوق كثيرا جدا، وذهب معي للمرور وسجلتها باسمي.
بعد عامين رزقني الله بطفلة جميلة، وانهالت علي الهدايا من زملائي لطفلتي، أحسست بحب جارف لهذا البلد العربي الأصيل الكريم.
بعد عام كانت طفلتي قد تعلمت المشي، وذهبت مع زوجتي وطفلتي للمدينة المنورة، وبعد الصلاة في مسجد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، خرجنا من المسجد النبوي، سرت مع زوجتي وبيننا طفلتي، وفجأة لم أجد طفلتي، تلفت يمينا ويسارا، فرأيتها تحمل لعبة جميلة في يدها، فسألتها من أين لك باللعبة، فأشارت إلى محل قريب يجلس أمامه مسن سعودي بثوبه الأبيض ولحيته البيضاء، بشوش الوجه، فأقبلت عليه وسلمت عليه، واعتذرت له عن أخذ طفلتي اللعبة من محله، فزادت ابتسامة الشيخ، وقال أن اللعبة أعجبتها فحملتها وسارت إليكم، فأخرجت ورقة بخمسمائة ريال وقلت للشيخ: بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا، وتفضل خذ ثمن اللعبة، فتبسم الشيخ وقال: هذه هدية الجد لحفيدته، والله لن آخذ منك الثمن، يكفيني فرحة الطفلة باللعبة، فأخرجت من جيبي 6 آلاف ريال وقلت للشيخ: الحمد لله، إنني مستور، لكن يجب أن تأخذ ثمن اللعبة، فرفض الشيخ الوقور وانحني ليقبل جبين ابنتي ويقول: في أمان الله.
مواقف بسيطة لكنها جميلة، تدل يقينا على كرم الشعب السعودي، وأصالته.
وعلى مدى سنوات قضيتها في المملكة، وجدت خيرا كثيرا، وأيقنت أن مصر والسعودية شعب واحد يفصل بينهما جغرافيا البحر الأحمر.
وتتوالي مواقف الشهامة والكرم في الدعوات التي وجهها لي زملائي السعوديين في أعراسهم وأفراحهم.
أجمل سنوات عمري قضيتها في السعودية، أديت فيها الحج ثلاث مرات، منها حجة عن روح أبي رحمه الله، فضلا عن عمرة أسبوعيا طوال تواجدي بالمملكة.
وفي اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، أهدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولجميع أبناء الشعب السعودي الأصيل أجمل تحية قلبية من مصري عاش بينكم أجمل سنوات العمر.