شارك في الإعداد: عبد الحميد جمعة- هبة فتحي- سمر السيد- وسام أمين- هيثم مراد- شعبان طه
منذ عشر سنوات تقريبا، تقدمت فتاة أجنبية بطلب إلى وزارة الخارجية المصرية، كان فحواه: “أريد تنفيذ وصية والدي، أريد حرق جثمانه ونثر رماده عند الأهرامات”.. حينها أرسلت وزارة الخارجية الطلب إلى مجمع البحوث الإسلامية، والذي رفض الطلب نهائيا بحجة أن ذلك يتعارض مع الدين والقانون، ولم يكن يعلم الرافضون أن هناك مادة في القانون المصري، تتيح منح تراخيص لبناء “أفران لحرق جثث الموتى”، فالقوانين المصرية تختفي بين طيات الكتب لسنوات وتظهر فجأة ليتم تطبيقها ولتقف مكتوف الأيدي حائرا ويجيبك المسئول: “كله بالقانون”.
أثناء البحث وجدنا على بوابة مصر للقانون، نصًا قانونيًا يُقر حرق جثث الموتى، ويعطي ترخيص أفران متخصصة لهذا الأمر.
وجاء في نص القانون..
صدر في 12 ديسمبر 1907 قانون يتيح بإنشاء أفران لحرق جثث الموتى و هذا نصه كما صدر بالجريدة الرسمية:
«بعد الإطلاع على القرار الصادر من الجمعية العمومية بمحكمة الاستئناف المختلطة في 5 مايو سنة 1906 طبقا للأمر العالي المؤرخ في 31 يناير سنة 1889»، قُرر ما هو آت:
أفران إحراق جثث الموتى:
مادة (2): كل فرن معد لإحراق الجثث يجب أن يكون في حالة صالحة لإدارته ونظيفا وبه العدد الكافي من العمال.
مادة (3): يسلم رماد الجثة إلي الشخص الذي قدم طلب الإحراق إذا رغب أخذه وإن لم يطلبه فعلي إدارة فرن الإحراق حفظه بمعرفتها وإن لم يوجد بها مكان مخصوص لجمع الرماد وحفظه يطمر في المقبرة أو في أرض تخصص لهذا الغرض تكون بجانب فرن الإحراق. وإذا حفظ الرماد في إدارة فرن الإحراق بصفة وقتية ولم يطلبه ذوو الشأن بعد انقضاء مدة معقولة يجوز طمره بعد إعلان الشخص الذي طلب إحراق الجثة ويحدد له في الإعلان مدة 15 يوما.
مادة (5): لا تحرق جثة إلا بمقتضى رخصة صادرة من إدارة عموم مصلحة الصحة بناء علي طلب ممضي من منفذ وصية المتوفي أو من الزوج أو الزوجة أو من قريب للمتوفي أو من ينوب عن أحدهم.
مادة (6): لا يُرخص بإحراق جثة ما لم يكن المتوفي أعلن رغبته بذلك كتابة أو شفاهة ولا يجوز إحراق الجثة إذا كان المتوفي مسلما.
مادة (8): يكون طلب الرخصة مرفقا بمستخرج من سجلات الإدارة ذات الشأن مثبتا لقيد الوفاة وبشهادة ممضاة من الطبيب الذي عالج المتوفي في مرضه الأخير أو دعي لتحقيق الوفاة ويبين فيها سبب الوفاة وأنها ليست نتيجة عدوان أو تسمم أو حرمان أو إهمال أو أي عمل آخر أو للتقصير في الواجب الشرعي ويجب أن تكون هذه الشهادة ممضاة أيضا من طبيب القسم بعد الكشف علي الجثة.
مادة (9): يكون طلب الرخصة مرفقا أيضا بشهادة من النيابة العمومية أو من أية سلطة أخري لها اختصاص في عمل التحقيق عن الوفاة تدل علي أنها لا تعارض في إحراق الجثة.
قررنا خوض تجربة تقديم طلب للجهات الرسمية بخصوص الحصول على تراخيص لبناء أفران حرق الجثث..
في البداية.. لجأنا إلى خبراء قانونيين للاستفسار حول وجود القانون من عدمه، وبعد أيام من البحث والرفض القاطع من كافة القانونيين والنفي التام لوجود القانون، كانت البداية من شمال سيناء، حيث أكد محامٍ–رفض ذكر اسمه- أن القانون موجود بالفعل ضمن القوانين المصرية، لكنه لم يؤكد هل جاء نص لإلغائه أم لا، فلا نص قانوني يُلغى إلا بنص آخر، ومن هنا بدأت خطة البحث، وتقدمنا بطلب لإدارة البيئة ومجلس محلي المدينة، بأكثر من محافظة، وجاء نص الطلب كالتالي: «السيد المهندس مدير إدارة حماية البيئة بديوان عام المحافظة، بالإشارة إلى القانون الصادر في 12 ديسمبر عام 1907 والذي يتيح بإنشاء أفران لحرق جثث الموتى، فإنني أتقدم لسيادتكم راجيا التكرم بالموافقة لي على إنشاء فرن لحرق جثث الموتى بمنطقة …. التابعة لقسم / مركز………. بمحافظة… وتفضلو بقبول الاحترام مقدم من…».
فوجئنا بنظرات تتهمنا بالجنون، ترك المسئولون الزميل في غرفة الانتظار لساعات، رافضين التحدث إليه، ولم يكن الموقف أفضل في المحافظات الأخرى، فتعامل المسئولون باستهجان وهناك من اتهمنا بالجنون وقرر أن طردنا خارج المكتب وإلا سيبلغ الأمن.
في النهاية، علمنا أن هناك من يستطع التلاعب وبكل بساطة بعقول موظفي الدولة، فمع وجود نص قانوني مطبوع ومحام جيد المستوى، وثقة في التحدث وتصميم على تقديم الطلب، ومع جهل الموظفين بماهية القانون اضطروا إلى قبول الطلبات، على وعد بالنظر فيها ودراستها والرد في أقرب وقت.
وفي هذا السياق، قال الدكتور علي تهامي -نائب رئيس مركز ومدينة المنيا-، إنهم لا يعلمون شيئا عن هذا القانون، مطالبًا برقم القانون للتأكد من صحته، ومشيرًا إلي أنهم يطبقون القانون رقم 453 لسنة 54، ومؤكدا رفضه لأي طلب خاص بأفران حرق الجثث، إلا حال قيام الحكومة بإرسال القانون مطالبين بتطبيقه.
أما في محافظة الاسكندرية، فأجمع المسئولون على عدم معرفتهم بالأمر، وفي دمياط، توجهنا إلى مقر مجلس مدينة دمياط، وقوبل الطلب بالرفض معللين أنه لابد من إرسال مرسوم رئاسى للجهات المختصة لتوضيح آليات العمل وفق هذا القانون، وهذا ما لم يحدث نهائياً منذ إصدار القانون وحتى الآن.
وفي الشرقية، تم تقديم الطلب،إلى إدارة شئون البيئة بمجلس مدينة الزقازيق بالشرقية، وجاء رد المسئول:”لا أعلم سوى القانون رقم 4 سنة 1994، معدل 9 /2009، وهو المعمول به”، وكان هذا هو الرد الموحد تقريبا في كل المحافظات التي خضنا بها هذه التجربة.
أصابت الحيرة القانونيين في مقتل، فمع وجود نص قانوني واضح بأيدينا، لم يدرسوا هل جاء نص يلغي عمله أم لا، تملكتهم الحيرة، قال أحمد الكبابجى -المحامى بالنقض-، إن قانون مثل هذا كفيل بفتح النارعلى المصريين كافة، إذ أنه ينادى بتعدد الطوائف، ولا يعقل أن يكون له دور حاليًا، مؤكدا أنه لا بد وأن تم تعليق العمل بمثل هذا القانون.
بينما أشار المحامى ناصر الفقيه، إلى عدم وجود هذا النص، وأكد أنه سوف يدرس المادة ويبحث في وجودها بالقانون المصري من عدمه.
فيما أشار برهان أحمد بدوى -المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة بكفر الشيخ-، إلى أن القانون صدر في سنة ١٩٠٤ بمرسوم ملكي، نظرًا لوقوع مصر فى هذا العصر تحت مظلة الاحتلال، وأن هناك أسباب تتعلق بالصالح العام الوقائي مثل حرق جثث الموتى التي يسكنها أمراض خبيثه معدية، كما هو الحال في “كندا وبلجيكا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكيه”، ولكن بزوال الاحتلال ومغادرة الأجانب والديانات المختلفة مصر، أصبحنا بلا حاجة إلى القانون، مضيفا أن من أهم مصادر التشريع في القانون المصري الشريعة الاسلامية، فإنه فلا يجوز إصدار أي قوانين تخالفها ولا تناسب طبيعه حال المصريين وعاداتهم ودياناتهم.
بينما كان رأي الدكتور محمد الفيومى -أستاذ التاريخ-، أن أسلوب إحراق الجثث كان يمارس في جميع العصور، لكن لم يستخدمه الصينيون القدماء أو المصريون، بل مارسه الإغريق والرومان القدامى. وكانوا يعتقدون أن إحراق الجثة يطهر الروح، ويحررها من شكلها الأرضي. واعتقد النصارى الأوائل باتحاد الجسد والروح، ولذلك أجمعوا على أن إحراق الجثث شكلاً من أشكال التحقير، مضيفا أن أول محرقة قانونية لاستخدام الجماهير تم افتتاحها في ميلانو، بإيطاليا، عام 1876م. وفي الوقت الحاضر، يتم التصرف في نحو 50% من المتوفين في أستراليا بإحراق جثثهم، وفي نحو 70% في المملكة المتحدة، وحوالي 15% في الولايات المتحدة،وإحراق جثث الموتى من الممارسات الشائعة في اليابان، حيث يتم إحراق 95% من جثث الموتى.
وجاء رد رجال الدين الإسلامي رافضا للأمر جملة وتفصيلا، فأكد الدكتور مجدى قراميط -رئيس المنطقة الأزهرية بدمياط-، أن الدين الإسلامى يقف حائلاً أمام تنفيذ مثل هذه المشروعات للمسلمين، فبهذا المشروع يكون المسلم قد أقر ديانة أخرى من خلال إحيائه لإحدى تعاليمها، مشيراً إلى أن حرق جثث الموتى ليس من تعليمات الدفن عند الإسلام، مستشهدا بقصة هابيل وقابيل وكيف علم الله قابيل أسلوب دفن الموتى.
ومن جانبه، قال الشيخ محمد نور الدين -وكيل وزارة الاوقاف ببنى سويف-، إن الدين الإسلامى الحنيف كرم الانسان فى حياته فكيف يقوم بإهانته فى الممات، وأن وجود هذه الماده فى القانون المصرى تعتبر والعدم سؤاء، لأن القانون المصرى مستمد من الشريعه الاسلامية.
أما عن رجال الكنيسة، الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبوقرقاص، أنه لأول مرة يسمع عن هذا القانون ولا يستطيع التعليق عليه، مشيرًا إلي أنه كان موجودا في الزمن القديم، بسبب انتشار مرض الطاعون، ووجود جثث ليس لها أهل، وهذا يعتبر جريمة في المسيحية، حيث أن المسيحية تعمل على تكريم الأجساد والقبور.
كما أكد الكاهن هشام بندليمون -كاهن كنيسة الروم أرثوذكس بدمياط-، أن الدين المسيحى لا يسمح بمثل هذه الأفعال وأن هناك تكريم للموتى من خلال طقوس معينة، مشيراً إلى أن من يدعو لهذا الأمر يعد مخالفة، وأنه إذا كان فعلاً يتم العمل بهذا القانون فيجب وقفه على الفور.
وبعد أن قمنا بتقديم الطلبات للمسئولين، وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، بقي السؤال: هل سيأتي اليوم الذي ينتبه فيه رجال القانون المصري ونواب الشعب الذين اختاروهم، ويعيدوا دراسة القانون المصري وما به من عوار قد يؤدي إلى أذى لأي مواطن في يوم من الأيام؟، وهل سيكون قانون حرق الموتى من خلال أفران مرخصة مازال ساريا وسيخرج للنور في يوم من الأيام ويتم تطبيقه؟.