كتب- مصطفى بدر:
هو الإنسان النبيل بكل ما تحمله الكلمة من معان، التقيته كثيرا وأنا في مقتبل شبابي، في مقهى عرابي بميدان الجيش، وفي مقهى قشتمر بحي الظاهر، أناقشه في رواياته التي كنت أقرأها بنهم، لأنني كنت من سكان حي الجمالية، كان يرى بعينيه الثاقبتين ما يحدث خلف الجدران في البيوت التي تحتضنها الحارات والأزقة العريقة، ويكتب عنها بعذوبة شديدة.
لم يتعالى الأديب العملاق على أحد، كان نجيب محفوظ يجالس الجميع، شبابا وشيابا، من طبقات اجتماعية كانت في منتصف الستينيات وحتى منتصف السبعينيات مستورة، لا تشكو فقرا وعوزا، كانت النفوس راضية، والحب يحتوي الجميع، لا نفاق، لا حسد، لا تباغض.
كنت طالبا في مدرسة إسماعيل القباني الثانوية بميدان عبده باشا، وكانت المدرسة مخصصة للمتفوقين فقط، وكان يوم الجمعة عيدا حقيقيا، كنت أذهب مترجلا لسور الأزبكية بميدان العتبة، أشتري رواية لنجيب محفوظ بقروش معدودات أوفرها من مصروفي اليومي، وعندما ألتهمها التهاما من بعد صلاة الجمعة حتى منتصف الليل، أذهب في الصباح لمدرستي، وعند عودتي أبحث عن الأستاذ الأديب في المقهى، لأجده يجلس صامتا، في هدوء نفسي راق، يراقب المارة بصمت وهو جالس في الصف الأول من المقهى، ويرسم بعبقريته ملامح الشخصيات العابرة، ويحللها بفطنة الأديب، حتى إذا اكتملت الخيوط في ذاكرته يغيب عن المقهي لأيام، يكتب فيها روايته الجديدة الغارقة في الواقعية.
ثم يعود إلى جلسته في المقهى وحيدا صامتا، يرتشف قهوته على مهل، بينما تهدر المطبعة بإنتاج روايته، تمهيدا لطرحها في المكتبات.
وحينما كنت أقبل عليه، تنفرج ابتسامته لتشرق في روحي، ويطلب لي فنجان قهوة، ومع أنني كنت أسعد جدا بحديثه الراقي في الأدب والفن، إلا أنني كنت أرشف قهوتي على عجل، وأستأذن منه، حتى لا أكون ضيفا ثقيلا يقطع حبل أفكاره الممدود دائما والمرتبط دوما بالحارة المصرية وبسطاء الناس.
والتحقت بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وأتاحت لي دراستي التعمق في الدرراسات الأدبية والنقدية، فضلا عن علوم الصحافة المتنوعة، التي نهلنا منا بشغف على أيدى عمالقة الفكر والصحافة في ذاك الزمان، ومن مراجع عربية كان المصريون سادتها، وبالطبع قرأت كثيرا في المراجع الأجنبية باللغة الإنجليزية.
واكتشف أن مداركي زادت وتوسعت كثيرا، من خلال استفادتي من مناقشة أساتذتي الأجلاء في الكلية، لتتفتح روافد جديدة أمامي، وأكتشف ما بين السطور في روايات الأديب الحبيب الأستاذ نجيب محفوظ، ومع رقيه الشديد واختياره ألفاظه بدقة، كنت أسأله: كيف تعمقت في فهم شخصية الفتوة وتاجر المخدرات وغيرهم، كان يجيب بابتسامة مشرقة: أعيش بينهم منذ زمن بعيد، وكتاباتي مرآة تعكس الواقع.
ثم أغيب عن لقاء الأستاذ، فبعد تخرجي أديت خدمتي العسكرية التي بدأت بستة أشهر في الكلية الحربية، لأتخرج بعدها ضابطا برتبة ملازم، وتم إلحاقي بقوات المظلات، وبعد دورات تفوقت فيها تم إلحاقي بقوة الاقتحام الجوي، التي تسند إليها مهام جسيمة للغاية، أقلها احتلال مدينة على أرض العدو، واحتلال مطار والتعامل بوحشية مع مختطفي الطائرة وفك أسر الرهائن، وغيرها من المهام القتالية التي نبغت فيها، وتيقنت تماما أن قواتنا المسلحة هي درع وسيف، ليس لمصر فحسب، بل للوطن العربي بدوله كافة.
كنت أتعامل مع كبار قادة المظلات، وكانت التدريبات شاقة وعنيفة للغاية، تبدأ في الخامسة فجرا، ويشارك فيها الجميع من أكبر رتبة لأقل جندي، والحقيقة المؤكدة أن بمصر رجال لو وزنت وطنيتهم بالجبال لرجحت كفة رجال القوات المسلحة.
ولأن خدمتي العسكرية كانت تبعد نحو 500 كيلو متر عن القاهرة، وكانت الإجازات محدودة، فلم ألتق الأديب نجيب محفوظ طوال مدة خدمتي بالقوات المسلحة، التي أعدها أغلى وسام نلته في حياتي.
وانتهت مدة خدمتي، وبدأت أبحث عن الأديب، إلى أن وجدته، لم يعرفني في بداية الأمر، لتغير هيئتي الجسدية ونبرة صوتي، وعندما تذكرني رحب بي ترحيبا شديدا، ووعد بإهدائي رواياته التي لم أقتنيها.
وتدور بي الحياة، لأسافر للعمل بالسعودية، وبعد عودتي إلى مصر عملت رئيسا للديسك المركزي بمؤسسة دار التعاون، وتحديدا بجريدة السياسي المصري، كان عملي يبدأ في التاسعة صباحا وقد ينتهي منتصف الليل، فلم ألتق الأديب الكبير لسنوات.
وتمر الأيام لأعمل في مؤسسات صحفية خاصة، لتلتهم جل وقتي وصحتي، إلى أن كان يوم 30 أغسطس 2006، لأستيقظ على نبأ وفاة أديب مصر والعرب والعالم نجيب محفوظ، انهمرت دموعي الغزيرة، وبكت روحي طويلا، لكن عزائي هو تخليد العالم لاسم من أنبغ وأشرف الأسماء.. نجيب محفوظ.