الناقد الفنى شريف الوكيل يكتب
غالبٱ مايكون أقصى أحلام البسطاء والمهمشين على جنبات الحياة، أن يكون لهم على الأقل جنازة تليق بهم عند موتهم، ممتلئة بالمشيعين ودعواتهم ، لعل الله يتقبل منهم ،فيغفر لهم ويذيقهم نعيم جناته، الذى حرموا منه فى حياتهم…وهذا نوع من التمسك بآخر حق لهم فى هذه الحياة، فهم ربما يكونوا قد فقدوا كل حقوقهم الدنيوية لكن أملهم وإيمانهم الوحيد فى الله الذى لاتضيع عنده الحقوق…ربما تكون المقدمة قاتمة بعض الشئ، ولكن ماذا لو تحقق مثل هذا الحلم حقا ، ليأخذنا بعيدا عن هذه القتامة ويجعلنا قدرنا أن نعيشه واقعا هزليٱ .
فكرة طريفة ومأساوية تداعبنا مابين اليأس والرجاء ، فإذا بنا نعيشهما معٱ، من خلال قصة كتبها الكاتب السينمائى ( بسيونى عثمان) ليحولها مخرج له وزن كبير واسلوب مميز فى فن الإخراج (سعيد مرزوق) وفيلمه الظريف والشيق “آى آى”.تدور أحداث الفيلم حول “زينب” ليلى علوى الفتاة البسيطة الفقيرة التي تريد علاج ابيها المريض واسمه “السيد الوزير” يقوم بدوره الفنان محمد عوض، فتذهب به الى أحد المستشفيات الحكومية، لكنها لا تجد فيها أي رعاية تذكر، لتبقى فى حيرة من أمرها ، فكيف التصرف وكان أبيها قد وصل لأقصى مراحل مرضه، فيقترح عليها ان تذهب به الى مستشفى خاص عرفها عن طريق إعلانتها في التليفزيون واعجب بخدماتها ونظافتها، “مستشفى تشرفك قدام الناس، وحتى لو مت اخرج منها فى جنازة الناس تحكى عنها” تلبى الإبنة رغبة الأب المريض فورٱ وتذهب به لتلك المستشفى وهناك تطلب منها ادارة المستشفى ان يدفعوا مبلغٱ تحت حساب العمليات الجراحية التي بدأوا فعلا في اجراءها فى محاولة لإنقاذ والد زينب، إلا أن والدها يفارق الحياة… وتطلب الإبنة من المستشفى تسليمها جثة ابيها لتدفنه بمعرفتها، ولكن بالطبع يرفض طلبها قبل ان يتم دفع كامل قيمة الفواتيرالباهظة، لتكاليف العلاج والجراحة، ويدخل الجميع في مناقشات وجدل غير مفيد، مع مدير المستشفى “كمال الشناوى” فالجميع مصر على موقفه، فتحاول الإبنة برفقة زوجها أبو سريع (أشرف عبد الباقي) سرقة جثة والدها من المستشفى إلا أنه تقع مفارقة حيث تتبدل جثة والدها عن طريق الخطأ، بجثة أحد الوزراء الذي كان نزيلٱ بنفس المستشفى ، ليوضع جثمان (السيد الوزير) والد (زينب) في نعش الوزير الحقيقى لتتحقق الأمنية، وتتوالى المفارقات السوداوية الكوميدية ، قبل ان يتم حل المشكلة بشكل يرضي جميع الأطراف، لتظهر حجم معاناة طبقة المسحوقين البسطاء فى هذا الزمن .
وقدمت الأحداث تشريحا كاملا للصدام بين الفقراء من المواطنين البسطاء حين يمرضون ولا يجدون لأنفسهم مكانا في المستشفيات الحكومية التي عجزت في ذلك الوقت عن تقديم الخدمات الطبية في ظل إهمال وفساد جسيم، وعلى الجانب الأخر كانت الخدمات التي تقدمها المستشفيات الخاصة خدمات فندقية أكثر منها خدمات طبية ، لا تهدف الى شفاء المريض او اسعافه قدر ما يهمها تحصيل المزيد من الأموال من المرضى حتى لو كانوا من المهمشين غير القادرين على مصروفتها الوهمية ، الذين يبحثون ويحاربون من اجل حقهم في العيش بكرامة في وطنهم، بالمقابل هناك الأغنياء الذين يجمعون مزيدٱ من الثروات والمال من جيوب الجميع غير مهتمين ولا محترمين كرامة غيرهم أوحقهم في الحياة أو حتى حرمة موتاهم . ولكن في ذلك الصراع يصرخ الجميع “آي آي” بشكل كوميدي دليلا على الألم، وهذا مايفسر تكرار تلك الجملة على لسان ابطال الفيلم في عديد من المواقف .
بدأ محمد عوض رحلته الفنية منذ نعومه أظافره بالمسرح المدرسي، ثم انتقاله للمسرح الجامعي بكلية الآداب، قبل أن ينضم لمعهد الفنون المسرحية وينطلق إذاعياً ومسرحيًا وتليفزيونيًا وسينمائياً ليصنع تاريخا فريدا بشخصيات مازالت تداعب وجدان المشاهد العربي بعد كل تلك السنوات من رحيله، فهو “أليط” الإذاعة و”عبيط” المسرح و”شرارة” التليفزيون والمدلل سينمائيًا، والذي قام ببطولة حوالي ١٥٠ عَمَلًا فنيًّا متنوعًا، مع قيامه بإنتاج عملين سينمائيًا هما “غرام في الطريق الزراعي” عام ١٩٧١، و”احترسي من الرجال يا ماما” عام١٩٧٥، كما قام بالغناء في فيلم وحيد هو “أخواته البنات” عام ١٩٧٦.
ولد محمد عِوض بحي العباسية الجديد الذي كان يستقبل الوافدين الجدد للقاهرة، حيث إن والده ووالدته ينتمون لمحافظة الشرقية، ولم يمهلهما القدر الكثير من الوقت ورحلا عن عالمنا قبل ان ينهى إبنهما دراسته الجامعية، وكان يريد ان يلتحق باحدي الكليات العسكرية في ذلك الوقت لحبه للوطن، ولكن تحمله مسئولية أخواته البنات، جعلته يمتهن الفن دون دراسة حتي التحق بمعهد الفنون المسرحية والذي تخرج منه عام ١٩٦٢، وخلال تلك الفترة وعمله بالمسرح تعرف علي زوجته ذات الأصول التركية، وارتبط بها حتى نهاية حياته، وأنجب منها عائلة فنية مستمرة حتي الآن فابنه الأكبر عادل مخرج سينمائي، والثاني عاطف يعمل مصمم استعراضات، والثالث علاء ممثل سينمائي.
وقبل أن يتخرج من معهد الفنون المسرحية، كون فرقة مسرحية واستغل دعم الكاتب الصحفي أنيس منصور الذي كان يدرس له في المعهد ليقنع الفنان سراج منير بإخراج مسرحياته التي كان يقتبسها من فرقة نجيب الريحاني، والذي انضم لها ليحصل علي أول أجر دائم في حياته والذي بلغ سبعة جنيهات. وبسبب براعته ورغبته الملحة في التمثيل كان يحفظ جميع أدوار المسرحية، وذلك جعله يقوم بدور البطل عادل خيري اثناء غيابه، مما ثقل موهبته المسرحية التي قدمته للإذاعة ليتألق فيها ويضع بصمته من خلال شخصية “الأليط” ببرنامج ساعة لقلبك، وبعد أن شاهده الفنان عبد المنعم مدبولي ضمه إلي مسرح التليفزيون الذي أتاح له الانتشار في جميع البيوت المصرية، من خلال مسرحيات ” جلفدان هانم، أصل وصورة، مطرب العواطف، العبيط”.
وقد ظهر ابداعه في المسرح عندما جسد أدوار أربعة شخصيات في مسرحية “نمره ٢ يكسب”، والتي حققت نجاحا فنيٱ ومادياً غير مسبوق، من بين ٨٠ مسرحية قام ببطولتها، كما كانت شهرة محمد عِوَض قد ظهرت مسرحيًا، فإنه انطلق سينمائيًا من القمة منذ البداية حتي النهاية، وقد بلغ عدد أفلامه في فترة الستينيات ٣٠ فيلمًا، بداية بفيلم شجرة العائلة عام ١٩٦٠ مما جعله يسيطر علي فترة السبعينيات تمثيلياً وانتاجيٱ، ويشارك كبار نجوم تلك الفترة بطولة الأفلام مثل النجمة سعاد حسني فقد قامت ببطولة ستة أفلام معه متميزة ومحببة لدى الجماهير…ومع شهرة عِوَض بتجسيد الأدوار الغريبة، كان دوره في مسلسل “برج الحظ” عام ١٩٧٨، والذي جسد خلاله شخصية شرارة الشاب صاحب العيون الحاسدة الذي يهرب منه الجميع.
وكان عوض صاحب إبتسامة صريحة، وخفة دم، وصفاء نفس تكشفها تصرفاته مع الآخرين، كان يظهر لجمهوره على الشاشة من خلال أعماله الفنية، إلا أن تلك الابتسامة كانت تحمل خلفها أنين الوجع، وقساوة المرض، الذى كان يعايشه ويتعايش معه، فقد سيطر عليه المرض وأصابه بالإكتئاب الشديد، وحاول إعتزال الفن والناس ، ولكن عشقه الشديد لفنه، وحبه للمسرح وجمهوره سبب قرار عودته لهم ، فكان يعمل لآخر يوم في حياته، وقام ببطولة مسرحية “مساء الخير”، بالاضافة إلى بطولة فيلم “أى أى” وهو يعانى وقد ساعده المرض فى هذا الدور، حيث فقد جزءًا كبيرًا من وزنه، حتى إن ليلى علوي حملته في أحد المشاهد… ظل عوض يواجه المرض لمدة تزيد عن سبعة سنوات، تارة يهزمه وتارة يتمكن من جسده وينحله، حتى تمكن منه وسيطر عليه ليرحل عن عالمنا …ورغم ان شخصية الأب “السيد الوزير” كانت محور الأحداث والمحرك الأساسي لها، الا ان مساحة دوره كانت قليلة، ويرجع ذاك لمرضه الشديد وأيضا رغبته القوية في المشاركة في الفيلم ، ليكون مسك الختام والوداع لجمهوره الحبيب الذي طالما اسعده في عديد من الأفلام الكوميدية الجميلة التي قدمها في سينما السبعينات برفقة زملائه حسن يوسف واحمد رمزى ويوسف فخر الدين ويوسف شعبان وغيرهم من الموهوبين .
ولدت ليلى علوى لأب مصري وأم يونانية. بدأت حياتها الفنية مبكرًا جدًا، حيث عملت وهي لا تزال صغيرة مع أبلة فضيلة في الإذاعة ومع ماما سميحة في التلفزيون، كما شاركت في العديد من برامج الأطفال. درست في المدارس الفرنسية وتخرجت في كلية التجارة ، اكتشفها نور الشريف وقدمها للمسرح، ثم عملت في مسلسل دموع فوق الحقيقة كأول تعاون لها مع التلفزيون كممثلة محترفة. من المسرحيات التى قامت ببطولتها (البرنسيسة، وبكالوريوس فى حكم الشعوب، والجميلة والوحشين) ومن الأعمال التلفزيونية قدمت ليلى علوى (العائلة، حديث الصباح والمساء، أخو البنات، تعالى نحلم ببكرة، ألف ليلة وليلة).وللسينما قدمت أعمالا جيدة منها فيلم المصير مع يوسف شاهين بحب السيما مع أسامة فوزى وألوان السما السبعة مع سعد هنداوى وأيضا خرج ولم يعد مع محمد خان وإضحك الصورة تطلع حلوة مع شريف عرفة …حصلت على العديد من الجوائز السينمائية لبعض من هذه الأعمال وعملت منتجة لفيلم (يا مهلبية يا)، كما تم تكريمها فى مهرجانات عديدة .
قدمت ليلى علوي من خلال الفيلم واحد من اجمل أدوارها، لتثبت براعتها وقدراتها في تقديم الكوميديا بشكل جرئ، وذلك من خلال مشاهد تشاجرها مع مدير المستشفى او اخوتها وازواجهم، وكذلك تعاملها مع زوجها اشرف عبد الباقي، او تعاملها مع أبيها المريض “محمد عوض” في اخر ادواره السينمائية، حينما كانت تحمله على ظهرها أو كما تحمل الأم طفلها الصغير… أيضا كانت شخصية مدير المستشفى من الشخصيات الهامة، قدمها الفنان كمال الشناوي في واحد من أجمل ادواره الكوميديه والتي حفلت بها العديد من أفلام سينما التسعينات، فأداءه الكوميدي في الفيلم ليس بجديد على المشاهد ولكنه يضيف للأحداث مزيد من القوة والثراء. الى جانب صاروخ الكوميديا الصاعد وقتها أشرف عبد الباقي والذي قدم أدوارا لافتة للنظر في غيره من أفلام التسعينات.
ولد أشرف أحمد عبدالباقي فى شبرا، تخرج في كلية التجارة، ثم في المعهد العالي للفنون المسرحية. بدأ نشاطه الفني منذ الصغر، حيث قدم العديد من المسرحيات مع فرقة كلية التجارة ومع فرق الهواة، ومثل في حوالي ٨٠ مسرحية، اكتشفه المخرج هاني مطاوع ليضمه إلى مسرحية (خشب الورد)، ومن أشهر مسرحياته (باللو – شبورة – بشويش – لما بابا ينام – رد قرضي)، ومن أهم مسلسلاته (حضرة المحترم – يوميات زوج معاصر – راجل وست ستات). قدمه رأفت الميهي في السينما في فيلم (سمك لبن تمر هندي) ومن أهم أفلامه (أريد خلعا، حب البنات رشة جريئة، اﻹرهاب والكباب، صاحب صاحبه، سيداتى أنساتى، وبوبوس) وغيرها الكثير من الأعمال الخفيفة حيث تميز بخفة الدم مع الأداء المميز الواعى .
وحينما تكون القصة قوية، فهي تمنح المخرج كثير من الراحة في إخراجه للفيلم، ولا تدعوه الى كثير من الفذلكة في تقديم الكادرات او زوايا التصوير، وهذا مافعله سعيد مرزوق في الفيلم. حين لا تشعر بمزيد من زوايا التصوير الغريبة، او كادرات التصوير المصنوعة باهتمام، بل كانت بسيطة جدا، اغلبها من كاميرا محمولة تنقل سرعة الاحداث لعين المشاهد مع اهتزازها ومتابعتها للأبطال وهم يهرولون في أحداث متلاحقة وحتى سيارة الإسعاف التي تمر بسرعة فتضيف الى المشهد مزيد من الاهتمام والمتابعة،كانت نقطة البداية الحقيقية لسعيد مرزوق عندما شاهد يوماً ما المخرج الأمريكى الكبير “سيسيل دي ميل”، وهو يصور فيلم (الوصايا العشر) في صحراء الهرم…كان سعيد فى العاشرة من عمره وقتها .
أحس مرزوق بعظمة دور المخرج وأهميته بالنسبة للسينما. ليقول : وأنا في العاشرة من عمري بدأت أتذوق الفن.. شاهدت فيلم (الوصايا العشر) للمخرج الأمربكى سيسيل دي ميل وعشقت هذا المخرج الجاد والفنان، بل وإتخذته مثلاً أعلى لي.. تمنيت أن أجلس على هذا الكرسي الذي يتحرك عالياً، والذي يجلس عليه المخرج.. وقتها بدأ حب الفن ينمو بداخلي بشكل غريب.. كنت أمارسه بشكل آخر في الرسم والنحت.. وبدأ مشواري الفني، وإبتدأته بالقراءة فقط .
والغريب أن سعيد مرزوق لم يدرس السينما على يد أحد، ولم يكن من خريجي أحد المعاهد السينمائية إنما كانت السينما نفسها هي مدرسته، حيث اعتمد على قراءاته فقط في تنمية موهبته واهتماماته السينمائية. وقبل أن يقدم أول فيلم له كمخرج.. عمل مساعداً لزميله المخرج الشاب إبراهيم الشقنقيري. ثم بعدها مباشرة قام بإخراج عدة أفلام تسجيلية قصيرة شارك بها في مهرجان ليبزج الألماني، وحصل على الجائزة الثانية في هذا المهرجان…كما حصل على جائزة الدولة في الإخراج والتصوير والمونتاج كما أنه قام بإخراج فيلم (دموع السلام) الذي أختير كأفضل فيلم عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
أكتسب سعيد مرزوق خبرته السينمائية من أعماله الجيدة التى أهلته لإخراج أول أفلامه الروائية الطويلة زوجتي والكلب ثم الخوف، وأريد حلٱ، وأيضا فيلم المذنبون الذى آثار ضجة وجدلٱ واسعٱ حوله لجرأته فى تناول قضايا الفساد فى السبعينيات…كما قدم للتليفزيون أعمالٱ جيدة ومتنوعة منها مسلسل حكاية وراء كل باب من مؤلفات توفيق الحكيم .
الفيلم رغم انه نادر العرض في الوقت الحالي فنادرا ما نجده يعرض بالتليفزيون، لكنه كان من الأفلام الناجحة تجاريا وفنيا عند عرضه في مطلع التسعينات، الا ان فيلم “آي آي” يعتبر واحدا من الأفلام التي لا يشعر المشاهد معها بالملل من تكرار العرض، ويضحك المشاهد على افيهات ليلى علوى والتي نافسها فيها كمال الشناوي في نهاية الاحداث. وضع الموسيقى التصويرية للفيلم الموسيقار جمال سلامة .
(شريف الوكيل)
***************************************