يدور حديث في عدد من وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حول لقاء جرى في الإمارات قبل أقل من شهر بحضور أطراف سورية معارضة “تقرر فيه” إنشاء منطقة آمنة على الحدود السورية الأردنية.
ووفقا لمصادر، قيل إن “القرار” جاء بموافقة من الإمارات والسعودية والأردن ومصر، وبمباركة أمريكية إسرائيلية، لإنشاء منطقة آمنة بعمق أكثر من 35 كيلومتر، لمواجهة “خطر التواجد الإيراني” على الحدود الأردنية.
وبشأن تفاصيل إدارة هذه المنطقة يقول الخبر أن الحل الذي طرحته روسيا، قبل السيطرة على الجنوب السوري، سيعود بسيطرة أبناء الجنوب على المنطقة، وإدارة معبر نصيب الحدودي من قبل القوات النظامية، وهو ما اقترحته موسكو أواخر العام 2017، ورفضته المعارضة السورية حينها.
أعتقد أن هذا الخبر، على الرغم من انتشاره الواسع نسبيا، ليس سوى اجتهادات ومحاولات مكثفة من قبل المستشارين في إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للتحضير لزيارته إلى الشرق الأوسط، ومحاولة إكسابها أي قدر من الأهمية وأي مجموعة من الأهداف، في الوقت الذي تشير فيه كل المؤشرات إلى أن زيارة بايدن المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية، ولقائه مع بعض الدول العربية لن تسفر عن أي نتائج.
هناك تصور شائع لدى البعض أن ما يقف بين سوريا والدول العربية هو إيران، وأن “الخطر الإيراني” يفوق في أضراره الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، إلا أن ذلك تصور عفا عليه الزمن، وحتى لو كان صالحا لما قبل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فالآن، وفي ظل الظروف الدولية الراهنة، وفي ضوء تشكيل العالم الجديد متعدد الأقطاب، وظهور أقطاب عالمية جديدة سياسية واقتصادية وعسكرية، لم يعد ذلك التصور مقبولا، ناهيك عن وجاهته ومنطقية طرحه.
على العكس من ذلك، يبدو الحراك العربي، وتنسيق المواقف الذي تخلل زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى سلطنة عمان ملفتا، حيث تفيد المعلومات الواردة من مسقط بتنسيق يجري الآن لتكوين جبهة عربية موحدة المواقف والسياسات، في ظل مستجدات الأوضاع العالمية، ذلك أن سعي واشنطن الحثيث لتكوين جبهة “ضد إيران”، يثير حفيظة البلدان العربية كثيرا، خاصة إذا ما تواجد في هذا التكتل العدو التاريخي إسرائيل.
كذلك فإن التسريبات التي ظهرت بشأن اجتماعات بين وفدين “رفيعي المستوى” من إيران ومصر في العاصمة العمانية، تشي بأن موازين القوى، وخرائط المنطقة، قد تشهد هي الأخرى تغيرات استنادا لإجراءات بناء الثقة بين القاهرة وطهران، ربما تمهيدا لإجراءات مماثلة بين ضفتي الخليج، وهو ما يمكن أن يحرك المياه الراكدة في الأزمة السورية. حيث أضافت مصادر دبلوماسية أن الاجتماع المصري الإيراني تطرق إلى الوضع في قطاع غزة، وسوريا، وكان له جانب أمني، أعتقد أن قضية الحدود الأردنية السورية كانت من بين ملفاته.
أشارت المصادر كذلك إلى أن القاهرة وطهران عازمتان على تحقيق مستوى مناسب من العلاقات، حيث توصل الطرفان إلى اتفاق بشأن التنسيق المشترك في المحافل الدولية. وكان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قد صرح، 3 يونيو الماضي، بأنه لم تكن هناك مفاوضات مباشرة بين طهران والقاهرة حتى الآن، إلا أن الجهود جارية لتطبيع العلاقات مع الدول العربية.
وبهذا الصدد أود التأكيد على أن السعودية والإمارات ومصر والأردن يسعون جميعا إلى تحسين العلاقات مع إيران، على عكس مساعي الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا إسرائيل، التي تسعى تماما إلى العكس، لما يعكسه ذلك من مصالحها في المنطقة في إبقاء العداء والاستفادة من المخاوف الأمنية للأطراف، بعرض خدمات الحماية والتجسس والمراقبة والتصيد والاغتيالات السياسية. فمصلحة الكيان الصهيوني واضحة، وهي تصفية القضية الفلسطينية، والإبقاء على احتلال الجولان، والضفة الغربية، والقدس، وحصار غزة، والإبقاء على منطقة الشرق الأوسط فريسة للصراعات والمواجهات والحروب الأهلية.
على الرغم من ذلك، يجب من الاعتراف بوجود مشكلة واقعية على الحدود ما بين الأردن وسوريا، إلا أن تلك المشكلة ليست ناتجة عن “خطر التواجد الإيراني”، وإنما ناتجة عن نشاط عصابات التهريب، وذلك يعود لعدم سيطرة القيادة في دمشق على بعض المناطق الحدودية مع الأردن، وهي قضية لا يمكن أن تتم معالجتها بمعزل عن استعادة سوريا سيادتها على كامل التراب الوطني، وخروج كل القوات المتواجدة بشكل غير شرعي على أراضيها.
كذلك فإن المخاوف التركية في شمال سوريا مفهومة وقد تكون مبررة، إلا أن الصيد في الماء العكر، ومحاولة بعض الأطراف التحريض على بدء عملية عسكرية تركية، يأتي بدافع رغبة هؤلاء في دق إسفين ما بين الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، ومناطق التهدئة في سوريا، وأعني هنا روسيا وتركيا وإيران. وبنفس الكيفية التي لا ترغب بها إسرائيل في أي تحسن للعلاقات ما بين الدول العربية وإيران، لا ترغب تلك الأطراف في أي تواءم ما بين الدول الضامنة، لما يسببه ذلك من استقرار على الأراضي السورية، وهو ما لا يصب في مصلحة بعض الأطراف، التي تتكسب من الحرب، والصراعات، والخلافات، ويبدو الاستقرار بالنسبة لهم عدوا لدودا يحاولون دائما “التخلص منه”.
إن حل الأزمة السورية يمر عبر طريق واحد فقط يعلمه الجميع، ولن يتحقق بدونه أي انفراج في الأزمة السورية. الحل يمر عبر اللجنة الدستورية، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، من أجل استعادة كامل السيادة السورية والحفاظ على وحدة الأراضي، وهو ما نأمل أن تتفهمه القيادة في دمشق، وتتفهمه المعارضة السورية بجميع أطيافها في الداخل والخارج، وأن يتفهمه السوريون جميعا، لبناء دولة ديمقراطية حديثة تؤمن بالتعدد والتعايش وقبول الآخر.
في سياق آخر، وعلى صعيد الأزمة الأوكرانية، فقد نجحت القيادة الروسية، عسكريا وسياسيا، في إزاحة والإبقاء على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في الخلفية الإعلامية، فلم يعد يحس الشعب الروسي، لا بما يجري على الأرض في دونباس (على الرغم من بيان وزارة الدفاع الروسية اليومي، والذي يسرد بالتفصيل ما يحدث في الـ 24 ساعة الماضية)، ولا بما يحيط روسيا من عقوبات هي الأعنف والأقوى والأكثر، والتي تهدف حرفيا لتركيع الدب الروسي، الذي يأبى ولن يركع تحت أي ظرف من الظروف.
وتبدو معاودة إشعال حرائق الشرق الأوسط، ودق الأسافين ما بين الأطراف دليلا آخر على ما أعلنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أن الغرب قد خسر بالفعل على المستوى الاستراتيجي ما بدأه منذ ثلاثة عقود من محاولات بائسة يائسة لزعزعة استقرار روسيا، وتحويلها إلى دويلات صغيرة متحاربة، وإنهاء وجود الدولة الروسية التي يضعها “الناتو” اليوم على رأس التهديدات التي يواجهها.
لقد صبرت القيادة الروسية طويلا، وحاولت بكل الطرق السياسية والدبلوماسية الممكنة وقف الحرب الهجينة التي يشنها الغرب لتهديد الأمن القومي الروسي، إلا أن الغرب استمر في محاولاته لزعزعة الأمن الداخلي الروسي، ورصد مليارات الدولارات لذلك الغرض، وسلك كل الطرق الملتوية لمحاولة الـتأثير على الشعب الروسي، ودفعه للانقلاب على مؤسسات الدولة والشرعية الدستورية، إلا أن للصبر حدود، وحينما وصل الأمر إلى أعتاب الدولة الروسية في بيلاروس وأوكرانيا، واشتعلت الحرائق حول الحدود الروسية من كل جانب، وتجاهل الغرب الإنذار الأخير الذي أرسلته موسكو إلى “الناتو” وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، ديسمبر الماضي، وبدا من الواضح أن النظام الانقلابي العميل في كييف قد ارتضى لبلاده هذا الدور الوضيع لتهديد أمن لا الأشقاء وحدهم، وإنما الانقضاض على الشعب الأوكراني نفسه في دونباس، وتلغيم الطرق إلى القرم، ووضع السدود لوصول المياه إلى شبه الجزيرة، وغيرها من الفظائع التي كشفتها العملية العسكرية الخاصة، لم يعد أمام موسكو سوى الدفاع عن دونباس، إيمانا منها بأن ذلك هو صميم الأمن القومي الروسي، وأصبح من واجب القيادة الروسية تدمير البنى التحتية العسكرية لـ “الناتو” في أوكرانيا، والتي كانت ستستخدم خلال أشهر قليلة، وربما أسابيع للهجوم على دونباس، ثم روسيا لسلب إرادتها، وتطويعها لإرادة الغرب.
لقد ألحقت العملية العسكرية ضررا كبيرا بسمعة وهيبة “الناتو” والبلدان المشاركة في العدوان الأوكراني، والتي توفر للنظام الأوكراني المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية والذخيرة، وتمده بالمرتزقة من المتطرفين من جميع أنحاء أوروبا والعالم. ولم يعد يهم أوروبا قضايا مكافحة الإرهاب، ولم يعد يهمها أن الأسلحة التي يوفرونها للمتطرفين الأوكرانيين يتم تداولها في السوق السوداء، وتصل إلى الشرق الأوسط، ومن المحتمل أن تعود إلى أوروبا على أكتاف إرهابيين آخرين.
لذلك فإن تأكيد الرئيس بوتين على أن روسيا لم تبدأ حتى الآن أي “مهام جدية” في أوكرانيا، يعني بالضبط أن روسيا معنية، وبمنتهى الصرامة، بأمنها القومي، وأنها ستفعل كل ما بوسعها وما في إمكانياتها لوقف أي تهديد لها من جانب النظام النازي المتطرف في كييف، أو من يقف وراءه، وهي مستعدة، إذا ما استمرت المماطلة من قبل الغرب، وإرسال مزيد من الأسلحة والمرتزقة إلى أوكرانيا، إلى اتخاذ خطوات أوسع، وأكثر جدية، تشمل كافة الأراضي الأوكرانية، أو أن تمتد إلى ما هو أبعد نحو الغرب إذا لزم الأمر.
إن روسيا لا تمانع في بدء محادثات جدية وسريعة على الأسس التي وضعتها خلال المفاوضات مع الأوكرانيين، والتي أوقفها الأوكرانيون أنفسهم، وكل مماطلة من جانب الغرب، وكل تصريح بشأن “حسم القضية على أرض المعركة” يزيد الأمور تعقيدا، ويدفع أوكرانيا وأوروبا نحو مزيد من المشكلات، التي تتفاقم داخل الحكومات والبرلمانات الأوروبية، خاصة وأن الحكومات الأوروبية تبدو اليوم وكأنها تدافع عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما تدافع عن مصالح شعوبها، وهو ما بدأت الشعوب تفطن إليه، وتتذمر بشأن غلاء المعيشة والوقود والبطالة المتوقعة، نظرا لإغلاق المصانع بسبب أزمة الطاقة والغاز، خاصة وأن شبح استقبال الشتاء القادم يلوح لأوروبا، بينما بدأ كثيرون يستوعبون العلاقة الشرطية بين استمرار التوتر، والأزمة الأوكرانية، وبين التضخم والبطالة والانهيار المستمر.
إن الشعب الروسي شعب عظيم، وقادر على تحمل الكثير من المصاعب التي تعود عليها خلال تاريخه الطويل، ولا تزيده العقوبات والحصار والعزل سوى صلابة والتفاف حول قيادته ورغبة متوحشة في مواجهة التحديات وصنع المستحيل، واليوم، يسطر هذا الشعب تاريخا جديدا ويدفع، بمساعدة حماقة الغرب، نحو انهيار النظام العالمي الراهن، تمهيدا للولوج إلى عالم جديد متعدد القطبية.
إن هزيمة الغرب نتيجة للنهج الذي اتبعه في العقود الأخيرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هو ما دفع نحو هذه المرحلة الجديدة في السياسة الدولية، والتي تفتح آفاقا للبدء بحل الكثير من المشاكل الدولية العالقة، بعد أن تسببت الولايات المتحدة الأمريكية في شلّ دور الأمم المتحدة لممارسة أي دور عملي وفعال في حل الأزمات الإقليمية مثل قضية الشعب الفلسطيني والأزمة السورية والملف النووي الإيراني. وعلى الصعيد الدولي، والملح جدا الآن، الأمن والسلام الدوليين، وتحديدا أمن سلام القارة الأوروبية، التي أصبحت تقف اليوم أمام مفترق طرق، بينما يقف العالم أجمع الآن أمام خطر نشوب صدام نووي بين الشرق والغرب.
إن جميع العواقب المصطنعة، والعقوبات غير المنطقية، والتي تضر الغرب بنفس القدر أو حتى أكثر مما تضر روسيا، من الممكن أن تزول فورا، حال تفعيل دور مؤسسات الأمم المتحدة، والتي يمكن أن تجد حلولا لجميع الأزمات بقراراتها سواء على مستوى الجمعية العمومية أو مجلس الأمن الدولي.
وختاماً، أنتهز فرصة نشر مقالي في صحيفة “رأي اليوم” لأتقدم للجميع بخالص التهاني بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله عليكم باليمن والبركات.
كاتب ومحلل سياسي