قراءة جديد في الفيلم وسيرة أبطاله يكتبها لكم الناقد الفني شريف الوكيل
فى عام ١٩٨٢ أخرج “عاطف الطيب”فيلمٱ يعد واحدا من الأفلام القليلة الأكثر صدقٱ فى تاريخ السينما المصرية والتى تتسم بإتساع الأفق ورحابة الرؤية وتحليل الواقع بدقة متناهية مع رهافة الحس فى تناول الحكاية بمنتهى البساطة، قصة الفيلم كتبها “محمد خان” المخرج السينمائي المصري. ولد لأب من أصل باكستاني وأم مصرية، ويعدّ أحد أبرز مخرجي السينما الواقعية التي انتشرت في جيله من السينمائيين نهاية السبعينيات وطوال ثمانينيات القرن الماضى والسيناريو “لبشير الديك” وهو كاتب من مواليد دمياط كتب القصة القصيرة ونشر العديد منها في المجلات الثقافية بمصر والعالم العربي قبل أن يكتب للسينما. أول فيلم كتب له القصة والحوار هو فيلم “مع سبق الإصرار” من إخراج أشرف فهمي وبطولة: محمود ياسين ونور الشريف وميرفت أمين .
يقدم الفيلم رحلة الإبن (نور الشريف) لإنقاذ ورشة النجارة التى يملكها أبوه (عماد حمدى) والتى تمثل له حياة الأب وكفاحه وتاريخه، لكن هاهى الورشة الآن معروضة للبيع فى مزاد علنى، لتسديد ماعليها من ديون متراكمة ، وتبدأ رحلة الإبن وهو يعمل سائقا لأحد أتوبيسات النقل العام، فى محاولة منه لإقناع إخوته البنات وأزواجهن بالوقوف معه…لكنه يفاجأ بردودهم السلبية، رغم ان كلهم يعملون فى مشاريع الإنفتاح فى ذاك الوقت ويجنون منها مكاسب جيدة …ولكن يبدو أن النقود قادرة على تغيير النفوس، فلم يعد أحد يسعى إلا وراء مصالحه الشخصية،فتمزقت الأوصال الحقيقية للأسرة، ولم يبق غير اللقب والأسم فقط ، وأصبحت القرابة بينهم لاتعرف إلا من خلال شهادات الميلاد فقط.
يموت الأب على أنقاض كل شيء…يموت بحسرته وكل الوجوه من حوله قد تحولت إلى تماثيل شمعية لاروح ولامشاعر فيها .
الفيلم يرسل من بين مشاهده إشارة واضحة لأزمة الشباب الذى خاض حروبا من أجل سلامة الوطن وحمايته من الأشرار، ولكن من الواضح أن هناك حربا أخرى على هؤلاء الشباب أن يخوضوها، حرب ضد التيارات المسمومة التى تنخر فى أساس المجتمع المصري… كذلك يضرب لنا الفيلم أكثر من مثل في التصدع والتفكك بمختلف العلاقات الاجتماعية ودخول المادة عنصر واضح في تشوية اسمي وأفضل العلاقات الأسرية بين الناس.
ويتناول فيلم “سواق الأتوبيس” موضوع التفكك الأسري، حيث السائق حسن (نور الشريف) الذي يعاني من سوء الحالة المادية، فيضطر للعمل على سيارة أجرة كعمل إضافي، خاصة مع ضغط زوجته (ميرفت أمين) التي ترفض تدني حالتهما المادية، وفي نفس الوقت يتولى حسن مشاكل أسرته بعد أن يعلن والده الحاج سلطان (عماد حمدي) صاحب ورشة النجارة إفلاسه، ولا يجد أحد من شقيقاته بجواره في تلك المحنة الصعبة، فيضطر إلى بيع سيارة الأجرة التى يعمل عليها حتى يساعد والده، مما يدخله فى مشكلة مع زوجته التى كانت تحبه قبل قراره بيع التاكسي لكي ينقذ الورشة مع مساعدة من واحدة من إخواته فتطلب الطلاق بسبب قراره.
يبدأ الفيلم بداية رقيقة صباح أحد أيام الشتاء القارس، نكتشف من خلالها دفء العلاقة بين حسن وزوجته مرفت، وتظهر تفاصيل شقتهم كطابع كل شقق الأسر المصرية ذات الدخل المحدود، وبتتابع هادئ ملحوظ تخرج كاميرات التصوير ببطء من بين هذا الدفء الأسرى إلى صخب الشارع اليومى ورحلة العذاب المستمرة داخل وسائل المواصلات المكدسة بالبشر…لتبدأ أحداث الفيلم فى فترة الثمانينات بأحد الأحياء السكنية الشعبية، عن أسرة عادية متوسطة الحال .
يتولى فيها الإبن حسن محاولة حل مشاكل الأسرة بعد إعلان والده الحاج سلطان إفلاسه، ولا يجد أحد من أشقائه بجواره فيما يمر به من محنة صعبة وتستمر أحداث الفيلم فى كشف العلاقات المعلنة والمستترة بين الناس فى عهد طغت فيه المادة على فكر البشر وتحكمت فى تصرفاتهم ، فالجميع يتصارع من أجل الحصول على مبتغاه بأى وسيلة ممكنة وغير ممكنة، المهم تحقيق الهدف فالغاية تبرر الوسيلة، وهذا مايوضحه الحوار الدائر بين الإبن الذى يتمسك بالقيم الأصلية وبين معظم الإخوات وأفراد العائلة ومدى التخلى عن قيمهم الأصلية فى سبيل الربح مثلما تقول أخته الكبرى” احنا نبيع الورشة ونبنى بدلها عمارة نسكنها مفروشة” .
تجدهم وقد نسوا أوتناسو أن الورشة هذه هى التى صنعتهم طوال سنوات عمرهم وأن ذلك الأب الحزين(الحاج سلطان) أضاع فيها من عمره وصحته سنوات وسنوات بذل فيها جهده وعرقه وذراعيه، وجعلها تنبض بالحياة والإنتاج، ولكن تأتى قيم الإنفتاح الجديدة مشوبة بالفساد فى أشياء كثيرة ،حتى توغلت فى أرواح أزواج بناته وسرعان ماتتحول إلى رغبة مشينة فى الإستيلاء على الورشة لتحويلها إلى بوتيكات فى ذاك الوقت أو معارض للموبيليا….يشهد الأب عالمه وهو يتهاوى .
حقا إن إبنه “حسن” يقاتل من أجل أن ينمى الورشة والتى ترمز للعمل الشريف، ولكن أصحاب النفوس الوضيعة والذين عرفوا أن المكسب السريع بأى طريقة هو السبيل الوحيد للبقاء، فيتكالبون لمحاصرة الأب العجوز وإبنه الشاب وقد أرهقته كل الحيل لإنقاذ مايمكن إنقاذه من حياة أبيه، من خلال مشهدين بالفيلم لايمكن نسيانهما، ويعتبران من أهم وأجمل كلاسيكيات السينما المصرية، التى تصلح للدراسة والتأمل فى عالم السينما .
المشهد الأول ” عندما يعود الإبن إلى والده المريض بعد رحلته الفاشلة إلى شقيقاته فى بور سعيد ودمياط، بحثا عمن يقف إلى جانب بقاء الورشة وإستمرارها…فى مسكن الحاج سلطان ذات الأثاث البسيط تلتقى عيون الأبن والأب، وبنظرة واحدة يعرف الأب ماوصل إليه الحال…فيحل الحزن محل القلق والترقب…وبنظرة واحدة يعبر الإبن عن مزيج من الألم والشفقة من تداول الأيام لتضع مثل أبيه مثال الأمانة والشرف والوفاء فى هذا الموقف…لقطة رائعة اقوى من أى حوار يمكن أن يكتب أو يقال.
والمشهد الثانى نجد الأب ينسحب من صالة شقته حيث كان يجلس منتظرا، ليدخل حجرته طالبٱ من زوجته أن تغلق النافذة… ويتمدد على فراشه مستسلمٱ للموت المادى، بعد أن قتل معنويٱ وروحيٱ، ويكون هذا هو المشهد الأخير للأب المهزوم، وهو من خلال روح الفيلم يشعرنا بمسؤلية الوقوف بشكل ما مع بقاء وإستمرار الورشة، وتشحننا على نحو فريد لنقف ضد القيم الزائفة الوقتية المتمثلة فى البوتيكات ذلك الإنجاز البائس لسنوات من العبث والضياع…
وهاهنا يعرض المخرج لوضع الوطن أو البلد حيث يرمز له بالأب المريض الذي تتهدده الكارثة ، ويرمز نور الشريف إلى المخلصين الكادحين من أبناء هذا البلد ، الذين يسعون لتخليصه من الخطر المحدق فالوطن لم يجرد من النبلاء، ولم يترك حسن ليخوض حربه الثانية وحيداً أعزل مهجوراً في واحد من أعمق وأعذب ما قدمت السينما العربية يجمع عاطف الطيب رفاق السلاح القدامي من الجيل المسروق وقد خاضوا بجوار حسن الحرب الأولي، زملائه أبام التجنيد والذين تفرقوا كل منهم فى مكان يبحث عن رزقه، حينما إلتقوا جمعتهم الذكريات وهموم الوطن، فى مشهد بالغ الرقة والشفافية نجدهم يتجمعون في إخلاص ونبل في نزهة خلوية عند سفح الهرم في ليلة قمرية وصدى أغنية قديمة لعبد الحليم حافظ تتردد من مذياع السيارة حتى تتلاشى تدريجياً ، وليبدأ توزيع جديد لنشيد بلادي في إيقاع حزين .. فهم جيل من الشباب أعطى وضحى وعاش لحظات البطولة والإنكسار ، وجمعهم المعدن الأصيل ، الرجولة والشهامة .
يمدون أياديهم إلي «حسن» وينحازون إلي حلمه لمحاربة الفساد، لتكون حربه الثانية امتداداً لحربه الأولي أو جولة جديدة في نفس الحرب، وفي مشهد نبيل آخر ينضم جيل جديد يمثله زميل حسن فى العمل ذلك الشاب الصغير الناظر فى أمل إلى المستقبل “حمدى الوزير” الكمساري الذي يحلم بالإرتباط بأخت حسن الصغرى نجده يقدم مدخراته لزميله إسهاماً منه في حملة إنقاذ «الورشة»ولكن دون جدوى حيث يصطدمون بالجحود ونكران الجميل من كل من أدى لهم الوطن صنيعاً وساهم في خروجهم إلى الدنيا ، حيث تشير مجريات الأحداث إلى أن الأب هو الذي ساعد أزواج البنات في تجاراتهم وأعانهم في كثير من المآزق ، بينما أعرضوا هم عنه حين احتاج لمساعدتهم ، وربما أراد المخرج بهذه الواقعة أن يشير إلى واقعة رفض بعض الدول العربية الغنية مساعدة مصر بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، على إعادة الإعمار والخروج من الأزمة المادية التي نجمت عن الحروب المتواصلة ااتى خاضتها ، وهناك أيضاً شخصية زوج البنت الذي يعمل في الورشة “حسن حسنى” فى دور (عوني) ولكنه لم يكن (عوناً) بالمرة ، بل كان سبباً في الكارثة عن عمد ، وهو يمثل قطاع المنتفعين والمستفيدين من تردي الأوضاع بالبلاد . كما ظهرت شخصية هامة جداً في هذا الفيلم لمدة دقائق معدودة جداً ، وهي شخصية أحد الأثرياء من ابناء الشارع وقام بدوره الممثل (محمد شوقي) الذي أعلن عن رغبته في الزواج من صغرى شقيقات حسن على أن ينقذ والدها من عثرته المالية ، وهو يكبرها بعشرات السنوات ، وهنا يرفض الأب ذلك العرض في إباء ، وقد تمركزت الكاميرا في تلك اللحظة عند أقدام الأب العجوز لترصد المشهد من أسفل إلى الأعلى لتظهر صورة الأب كالهرم الشامخ القوي رغم المحنة التى يعيشها ، متحديا ذلك المنقذ الزائف المستغل للموقف فى صورة شديدة التعبير عن من (يترصدون لنهب خيرات البلاد وعرضه المتمثل فى الإبنة الصغيرة البكر) .
إستطاع المخرج عاطف الطيب، أن يحجز مكانته على قائمة أفضل مئة فيلم مصري، حيث حلّ فيلمه ثامناً فيها، وكان الفيلم واحداً من أروع أعمال نور الشريف، الذي طالما صرح أنه «الأقرب إلى قلبه»، لاسيما وأن العمل يتناول مجتمع ما بعد حرب ١٩٧٣، ويسلط الضوء على قضية التفكك الأسري، والتفسخ الأخلاقي إزاء التغير المفاجئ في العلاقات الاجتماعية في عصر الانفتاح…وجدير بالذكر أن فكرة الفيلم عرضها كاتبها ومنتجها على الفنان {عادل إمام} فرفضها متعللا بأن شخصية البطل سلبية ولا تحرك الأحداث، وبمجرد أن عرض الفيلم على نور الشريف تمسك به، قائلا “هو ده”…ليحصد الفيلم العديد من الجوائز، ومن أهمها جائزة التمثيل الذهبية للفنان نور الشريف من مهرجان نيودلهي السينمائي الدولي، وجائزتي العمل الأول للمخرج عاطف الطيب من مهرجان قرطاج، والسيف الفضي من مهرجان دمشق.
وكانت هذه الجوائز بمثابة شهادة ميلاد للمخرج عاطف الطيب، الذي بدا فيه مالكاً ومتمكناً من أدواته، كما أنه شكل إعلاناً لميلاد تيار «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية والعربية، وهو ما جعل منه واحداً من أفضل وأجمل الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية في الثمانينات.
إن سر نجاح فيلم (سواق الأتوبيس) هو أنه يحدثنا عن الأشياء العادية التي يتصور البعض بأنها ليست موضوعاً للسينما . ثم أن الفيلم قد تحدث عنها بمرارة وبوعي وصدق وحرارة ، دون الوقوع في المباشرة
لذلك لا يختلف إثنان على أننا أمام فيلم ينتقد بقوة ذلك الدمار الذي حل بأخلاقيات الإنسان المصري العادي في عصر سمى بالإنفتاح ،رغم عدم ورود مجرد هذه الكلمة في أى جزء من حوار الفيلم ولو لمرة واحدة ، فالفيلم قد تحاشى جاهداً تقديم مواعظ وخطب رنانة ومباشرة عن الشرف والأمانة والوطنية والإخلاص مثل أفلام كثيرة غلب عليها هذا الطابع والذى كان المشاهد العربى قد تعود عليه على مايبدو، . وعلى العكس ففيلمنا اليوم لم يبذل المجهود المعتاد في إبتكار أحداث كبيرة أو أشخاص ذوي شأن ، بل ركز إهتمامه كله في تأمل التطورات والتغيرات الدقيقة في الأخلاقيات والمشاعر والعادات ، وكذلك الروابط العائلية والآثار النفسية المترتبة منها، وعلى الرغم من هذه المنطقة الوعرة جدٱ فقد تمكن محمد خان وبشير الديك ومعهم المنفذ عاطف الطيب الذى قدم عملٱ شديد البساطة والعمق، ليقدم أولى وأحسن خطواته الصحيحة نحو سبنما واقعية جديدة، ترتكز على أعمال الأجيال السابقة، فى محاولة للتعبير عن جوهر العلاقات داخل المجتمع المصرى
بإستخدام لغة سينمائية جديدة كالتصوير فى الشوارع والأزقة والاماكن الطبيعية فتعطينا تلك الأفلام مصداقية فى التعبير عن المكان والزمان .
وينسب لعاطف الطيب توفيقه فى إختيار مجموعة الممثلين ،وبراعته فى إدارتهم وتحريكهم، بمنتهى البساطة، فقدم نور الشريف واحدا من أفضل أدواره على الشاشة من خلال اداء سهل ممتع، حيث أجاد التعبير عن مشاعر الحزن والأسى والفرحة فنال عن دوره جائزة الطاووس الفضى لأحسن ممثل عن إستحقاق ، من خلال لجنة تحكيم على رأسها المخرج والناقد البريطانى”لندسى أندرسون”…
وكذلك الفنانة “مرفت أمين” الذى كان دورها فى الفيلم بداية لمشوار النضج الفنى بعد ذلك ،قدمها للسينما الفنان أحمد مظهر عام ١٩٦٨ حيث اشتركت معه بفيلم (نفوس حائرة)، ومن هنا انطلقت إلى عالم النجومية، فقدمت للسينما أعمالا على نفس مستوى فيلم اليوم منها “ثرثرة فوق النيل وأبى فوق الشجرة وزوجة رجل مهم والأرجوز” ويذكر لها أنها إشتركت فى خمسة أفلام تم إختيارهم ضمن قائمة أفضل مئة فيلم بذاكرة السينما المصرية… وسوف نعرض لها بتفصيل واضح تاريخها الفنى فى عمل قادم تقدم فيه البطولة الأساسية لكونها تمتلك رصيدا هائلا من الأعمال الجيدة لايجوز إغفالها. فيلم اليوم يحشد الكثير من النجوم والممثلين على رأسهم الفنان عماد حمدى ذلك الفارس المهزوم وهو أحد الفنانين القلائل الذى إستمر لأكثر من عقدين يقوم بدور الفتى الأول، ومن المفارقات أن يبدأ مشواره الفنى بدوره القوى فى فيلم (السوق السوداء) الذى قدمناه منذ أسابيع مضت، ويكون آخر دور له على الشاشة هو دور الحاج سلطان، رب الأسرة العجوز فى فيلم اليوم، حيث يقف موقفٱ عنيفٱ ضد طبقة المستغلين التى بدأت تطفو على سطح المجتمع المصرى خلال الحرب العالمية الثانية، فى السوق السوداء…حتى جاء سواق الأتوبيس ليفضح طبقة طفيلية شرهة بدأت تنهب خيرات البلاد ، كما لو أنه قد كتب عليه الخوض فى هذه المعارك الفاصلة ضد تفشى الفساد .
ويصدمنا “الطيب” بشخصية أكثر انتهازية وإستغلالا لما حولها من الأمور ألا وهى شخصية”عونى” زوج أخت حسن الذى إنتشله الحاج سلطان من الضياع ومكنه من إدارة الورشة والذى ينجح بدوره فى إقصاء حسن عن طريقه بإفساد العلاقة بين الأب والأبن لينفرد بالورشة لحسابه،وما أن تغرق الورشة فى الديون يكشر عن أنيابه ويطلب شراء نصفها متحديا الأبن”هو انت كنت عايزنى أفضل صنايعى طول عمرى عند أبوك…مش كفاية شبابى اللى ضيعته عندكم” قدم الدور بإمتياز (حسن حسنى) ، أما عن “البرنس” وحيد سيف زوج الأخت الثانية (نبيلة السيد) فقد سبق أن إستضافه الأب عنده خلال فترة التهجير، هو وزوجته والأولاد، ثم عاد إلى بلدته بورسعيد بعد أن تحولت لمدينة حرة ليعمل فى تجارة كل ماهو مستورد ورغم قدراته المادية الواضحة عليه إعتذر عن مساعدة الإبن حسن متعللا بأن “فلوسي كلها فى السوق ، والعين بصيرة والإيد قصيرة”.
.أما الحاج “تابعى” على الغندور زوج الأخت الكبرى من كبار تجار الموبيليا بدمياط الذى ساعده سلطان فى بداية حياته بأن أقرضه مبلغا من المال ليبدأ بها تجارته، يقدمه الفيلم فى ذكاء بعد أن يصل التاكسى وحسن إلى محل تابعى هذا، لتحل الكاميرا محل عينى حسن لتتحرك فى إتجاه رجل يجلس على مكتب فخم وسط المعرض ممسكا بالتليفون فى حديث غنى بآلاف الجنيهات “شيك إيه ياحاج فتحى هو احنا بينا وبين بعض شيكات ياراجل صلى…انت تبعت فى اى وقت تاخد اللى انت عاوزه” وعندما يرى حسن لا يفوت السيناريو الفرصة أن يسخر من محدثى الثراء، فتجده بنسى وينادى على عامل المعرض ، ثم سرعان مايتذكر أن لديه جرس بجوار المكتب “ماتآخذنيش ياحسن الواحد بينسى”يعبر هذا الرجل عن ذلك التحول والخلل الذى أصاب المجتمع فى فترة السبعينات ، وعندما يطلب منه حسن المبلغ الذى اخذه من أبيها ينكره بل ويطلب منه شراء الورشة” وفلوسى كاش والحاج سلطان يجى يشتغل بالمعرض مع إبنى وعن إذنك ألحق أصلى الضهر قبل ماانقض وضوئى” ليزيد التأكيد أن القيم والعواطف فى هذا الزمن ليست لها قيمة بل هى مصالح فى المقام الأول .
قدم لنا اامخرج من خلال اسلوبه البسبط عناصر اللغة السينمائية لخدمة دراما الفيلم فى إيقاع شجى متدفق شديد الحيوية، مع الإهتما البالغ بالتفاصيل الصغيرة التى تظهر الواقع اليومى للإنسان المصرى، وقد وفق فى إستخدام أحجام اللقطات وزوايا التصوير من خلال كاميرات (سعيد شيمى) المحمولة لتقتحم الشوارع فى جرأة، لتلعب الإضاءة دورها فى التعبير عن شخصيات الفيلم، كما أسهمت فى إظهار الديكور المتقن المتمثل فى حياة كل شخصية وعملها وامكانياتها من خلال ديكورات (رشدى حامد) .
تتضافر كل هذه العناصر لتأتى موسيقى (كمال بكير) الرائعة التى صاغها لتصبح جزءٱ من البناء الأساسى فى كل مشهد، فأضفت إحساسٱ يفيض بالشجن والأصالة والحزن النبيل .
لقد قدمت مجموعة منفذى الفيلم نسيجا هارمونيا فى الأداء المؤتلف والمتآلف بدأ من (شعبان حسين وصفاء السبع وزهرة العلا والمنتصر بالله و محمد شوقى).
سواق الأتوبيس سيظل علامة مضيئة فى تاريخ السينما المصرية، بصدق تعبيراته عن اللحظة التاربخية وإحترام عقل المشاهد فى لغة سينمائية راقية جعلته جديرا بأن يبقى فى سجل كلاسيكيات السينما العربية .
بقي لنا مشهدان جعلتهما مسك الختام للنهاية لما لهما من أهمية كبيرة وهما مشهد بداية الفيلم ومشهد النهايه ، حيث بدأ الفيلم بمشهد لنشال يقوم بسرقة أحد الركاب ، فيقوم السائق بإيقاف الأتوبيس ، ويفتح الباب ليحاول اللحاق بالنشال فيجد أن صاحبنا قد سلك طريقه بين السيارات والزحام ، وأنه من الصعب اللحاق به فيقرر العودة إلى مقعد السائق حانقاً .
وفى نهاية الفيلم ، وبعد كل ما مر به السائق من أحداث ، تتكرر نفس المأساة ويهرع النشال إلى خارج الأتوبيس ، ولكن سائق الأتوبيس هذه المرة يقرر اللحاق به ضارباً عرض الحائط بكل الصعاب ، ويلحق به ، ويكيل له اللكمات صائحاً (يا ولاد الكلب) وفي الخلفية تعزف موسيقى السلام الوطني المصري (بلادي بلادي) ولكن في ثوب حزين ، يبعث على الأسى حيث تصور الموسيقى ذلك المعنى الوطني الجميل (أغنية بلادي) بصورة حزينة للغاية. أراد المخرج بهذين المشهدين التأكيد على أن مطاردة الفساد والحرص على القضاء عليه ، وملاحقة من يسرقون أقوات الناس ، هو أحد أهم عوامل النهوض ، فلاينبغي أن نتقاعس عن هذا الأمر الهام ، والفارق بين المشهدين في البداية والنهاية يبين ذلك بوضوح .
شاهد الفيلم