يضربون بقوّة ويربحون بعدها
قبل نهاية التسعينيات نجح آل ساويرس في انتزاع شبكة الهاتف المحمول الأولى في البلاد من ملكية الدولة “الهيئة القومية للاتصالات” إلى ملكيتهم الخاصة، وقد كانت “موبينيل” هي الدجاجة التي تبيض لهم الذهب بشكل يومي ولسنوات في سوق كبيرة عوائدها ضخمة مثل السوق المصرية، السوق الأكبر في المنطقة.
صفقة استحواذ آل ساويرس على رخصة التليفون المحمول المملوكة للشركة المصرية للاتصالات بمبلغ مليار و755 مليون جنيه اقترضوا بموجبها آنذاك 770 مليون من البنوك المصرية وموّلت شركات عالمية بقية الصفقة للحصول على حصّة منها، كانت هي الصفقة التي وضعت رموز العائلة من هذا التاريخ على سلّم أثرياء مصر والعالم.

إنها الصفقة الوحيدة ربّما التى تجاهلت فيها الحكومة المصرية وقتها شروط الشفافية المتمثلة في الإعلان العلني للبيع ثم والمساواة بين أصحاب عروض الشراء الأخرى، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. لقد تم البيع بالأمر المباشر بتوجيه من مبارك شخصيًا لصالح آل ساويرس، حتى أن قيمة السهم السوقية للشركة وقتها كانت 15 جنيه بينما إشترتها العائلة بسعر 2.60 جنيه فقط، أي بأقل 5 أضعاف عن قيمتها الحقيقية بحسب استجوابات وطلبات إحاطة تحت قبة البرلمان من معارضين للصفقة انتهت إلى لا شيء أمام أغلبية الحزب الوطني الحاكم آنذاك.
بعد البيع بفترة وجيزة ارتفعت قيمة السهم مع تزايد أعداد المشتركين لتصل إلى 190 جنيه، وهنا يمكن أن تتخيل حجم القفزة الضخمة في ثروة آل ساويرس بعد انتزاعهم شركة المحمول الأولى في مصر من ملكيّة الدولة إلى ملكيتهم الخاصة.
حجم الثروة التي تحققت للعائلة من تلك الصفقة الضخمة عجزت قدراتي في الحساب عن تقديرها من هول الأصفار الكثيرة على يمين الأرقام الأكبر في حساب الفرق بين قيمة السهم وقت الشراء وقيمته عند 190 خلال فترة وجيزة بعد طرحه في البورصة. تلك معادلة في حاجة إلى حصّة في علم الحساب.
بعدها نجحت شركة مقاولات أوراسكوم المملوكة للعائلة، في اقتناص صفقات ضخمة وحساسة لتنفيذ مشروعات عسكرية بمصر كان يمكن للجيش أن ينفذها بنفسه، لكن شروط المعونة الأمريكية العسكرية لمصر فرضت شركة آل ساويرس لتنفيذها، ما هبط عليهم أيضًا بثروة دولارية ضخمة، كان يفترض أن تفوز بها خزينة الجيش لكنها ذهبت جبرًا إلى خزينة آل ساويرس بتوجيه من الدولة التي تقدّم تلك المعونة.

ومن ذلك التاريخ أخذت امبراطورية آل ساويرس في الصعود السريع داخل البلاد وخارجها، ولعل أبرز مشاهد هذا الصعود، مشروعاتها خارج مصر في دول كانت لأمريكا تداخلات حساسة معها، مثل كوريا الشمالية وأفغانستان و كردستان العراق، على سبيل المثال لا الحصر.
الغريب أن معظم صفقات آل ساويرس الضخمة في مصر أتت في أعقاب أو أثناء مراحل حساسة تمر بها مصر، فقد انتزعوا شركة التليفون المحمول الأولى والوحيدة في مصر آنذاك، مباشرة عقب الأزمة بين مصر من جهة وأمريكا وبعض الدول الغربية من جهة أخرى، عن وضع الأقباط في مصر وفي القلب منهم رجال الأعمال المسيحيين، ما هدد سمعة الاستثمار الأجنبي في البلاد آنذاك، على خلفية الخبر الذي نشره الصحفي إبراهيم عيسى في جريدة الدستور، وانتفضت له دوائر الحكم في الغرب عن وجود قوائم اغتيال تستهدف ثلاثة من رجال الأعمال الأقباط في مصر.
قوائم وضعتها الجماعة الإسلامية المسلحة وأصدّرت في شأنها بيانًا –لم تتاكد حقيقته فيما بعد- نشره إبراهيم عيسى، ونقل عنه أن على رأس هؤلاء الثلاثة المستهدفين رجل الأعمال نجيب ساويرس، وهي القضية التي ما تزال الكثير من أسرارها في بطن ابراهيم عيسى ونجيب ساويرس، غير أن جزء بسيط حول تلك التشابكية بينهما نشره الزميل الكاتب الصحفي محمد الباز وتناول فيه قصة الشيكات التي كان يرسلها نجيب ساويرس إلى إبراهيم عيسى، واطلع محمد الباز بنفسه على واحد منها قيمته 50 ألف جنيه.
وقتها وعلى خلفية نشر إبراهيم عيسى خبرًا عن قوائم الجماعة الإسلامية المسلحة لاغتيال 3 من رجال الأعمال الأقباط في مصر على رأسهم نجيب ساويرس؛ أن أغلق نظام مبارك صحيفة الدستور فكان أن تكفّل بعدها “نجيب” ماليًا بكافة احتياجات “عيسى” الشهرية، والذي ظل لسنوات يعيش على تلك المعونة الشهرية التي كان يمنحها له نجيب ساويرس لسنوات بسخاء.
بقي ابراهيم عيسى يعتمد على معونة نجيب ساويرس الشهرية، حتى عاود الظهور من جديد مع الإصدار الثاني لجريدة الدستور، والذي كنتُ أنا وزميلي شقيق الطاهر سببًا رئيسيًا في عودتها. وتلك قصّة أخرى.
محمد الباز يكتب: نجيب ساويرس اشترى إبراهيم عيسى بـ 50 ألف جنيه
اشتد عود إبراهيم عيسى المالي شيئًا فشيًا بعدما كان يسكن في شقة صغيرة في حي فيصل بالجيزة حتى أصبح هو الذراع الإعلامية لتنفيذ سياسة “الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي في المنطقة العربية” عبر قناة “الحرة” الأمريكية، وقد درّ ذلك عليه ملايين الدولارات، فشاهدنا ابراهيم عيسى يسكن القصور، وأصبح لديه عقارات في الساحل الشمالي واليونان، وأرصدة ضخمة في البنوك المصرية والأجنبية، بعد اعتماده خطّة ممنهجة لانتقاد رموز وتراث الدين الإسلامي، وهو على ما في نقده هذا من وجاهةٍ أحيانًا، إلا أن امتناعه ولو لمرّة واحدة عن انتقاد رموز وتراث الديانتان المسيحية و اليهودية قد وضعه في دائرة الشكّ، من أنه يعمل وفق أجندة من يدفعون.. “الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي” التي تعاقد معها على مشروع ضخم لانتقاد التراث الإسلامي.
من وقتها يحظى إبراهيم عيسى بدعم أمريكي غير مسبوق، ما منحه حصانة كبيرة حالت بين أن تقترب منه أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، حتى بدا كما لو أنها تهابه أو بالأصح تهاب من يحتمي بها. الخارجية الأمريكية ودوائر التاثير الغربية، وعلى ذلك نجح إبراهيم عيسى في أن يبقى داخل دائرة الضوء بخطابه الديني المثير للجدل مرّة وخطاباته التي ينتقد فيها الدول المصرية وأجهزتها مرّات، دون أن يجرؤ أحد على الإقتراب منه، للامانة بعض انتقاداته السياسية وجيهة، لكنها تفقد وجاهتها عندما تقتصر على أمور وتتجاهل أخرى أكثر وجاهة.
وحتى لا يأخذنا الاستطراد بعيدًا عن آل ساويرس الذين ارتبط معهم إبراهيم عيسى بعلاقة خاصة، فإنه تجدر الإشارة هنا – قبل أن نترك محطّة إبراهيم عيسى التي ركب منها آل ساويرس قطار الثروة- إلى إرسال نجيب ساويرس وقتها استغاثة إلى الرئيس الراحل حسني مبارك يطلب فيها حماية رجال الأعمال الأقباط في مصر وارفق بتلك الإستغاثة نسخة مما نشره ابراهيم عيسى في صجيفة الدستورعن وجود خطط لاستهدافه، فكان أن تجلّت هذه الحماية في أن منحه مبارك ملكيّة أول شركة هاتف محمول في مصر بالأمر المباشر، وبأقل 5 أضعاف عن قيمتها الحقيقية آنذاك.
دفع ابراهيم عيسى ثمن نشره هذا الخبر، أن أغلق له مبارك جريدته “الدستور” فكان أن حصل في المقابل على أضعاف هذا الثمن من نجيب ساويرس، في شكل منحة دورية تصله مطلع كل شهر، فقد كان خبر الدستور سببًا في:
- حصول آل ساويرس على أول وأهم صفقة مالية من الدولة، قدّمت لهم فيها البنوك المصرية قرضًا بأكثر من 700 مليون جنيه لإتمامها.
- ووصول إبراهيم عيسى إلى دوائر التأثير الأمريكية مدعومًا بتوصية من آل ساويرس باستعداده المطلق أن يكتب أو يقول ما يتوافق مع الأمريكان ودوائر الغرب في مجالات “الحرّية ونقد الخطاب الإسلامي”.
نفوذ آل ساويرس في مصر تجلّى في أوضح صوره عام 2019 عندما نجحت العائلة في إلغاء اتفاقية للتنقيب عن البترول في المنطقة البحرية المقابلة لمدينة “الجونة” المملوكة لهم بمحافظة البحر الأحمر، وهي الاتفاقية التي تشاركت فيها الدولة مع شركة مملوكة لمجموعة من أكابر مصر على رأسهم رئيس جهاز المخابرات المصرية الأسبق مراد موافي وسامح فهمي وزير البترول الأسبق، وحسن يونس وزير الكهرباء الأسبق، وسيد مشعل وزير الإنتاج الحربي الأسبق. بالإضافة إلى إمبراطور الدواء المالتي ملياردير شيرين حلمي رئيس شركة فارما للأدوية.
هؤلاء الأكابر الخمسة أسسوا فيما بينهم شركة “رويال ريسورسيز” المتخصصة فى البحث والاستكشاف، بالمشاركة مع الدولة متمثلة في شركة جنوب القابضة للبترول، وحصلت الشركة بالفعل على إمتياز البحث والاستكشاف ومن ثم الإنتاج، في تلك المنطقة المواجهة لمنتجع الجونة، المنتجع الأشهر في إمبراطورية آل ساويرس السياحية والعقارية.
وقتها تساءلتُ أنا كاتب هذه السطور في منشور على “فيسبوك”: هل ستسمح عائلة “ساويرس” بإقامة مضخات نفط أو غاز في مواجهة منتجعهم الشهير؟ قلتً ذلك بعدما وصلتني معلومة مؤكدة أن آل ساويرس قد أزعجهم موافقة الدولة على هذا الامتياز، وتساءلتُ؛ أي نفوذ سيهزم الآخر في هذا الصراع الكبير؟ نفوذ رئيس سابق لجهاز المخابرات المصرية ومعه حفنة من أشهر وأهم الوزراء السابقين بما لهم من نفوذ في دوائر الدولة العميقة.. أم نفوذ عائلة ساويرس؟ الإجابة جاءت بعدها في أن انتصر نفوذ آل ساويرس، ألغي الإمتياز وتم تفكيك الشركة بالكامل.. شركة “رويال ريسورسيز”.
إلى ما سبق وفي مقابلة نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية يوم السبت 20 نوفمبر 2021، نبه الملياردير المصري نجيب ساويرس من أن تدخل الحكومة في القطاع الخاص سيخلق منافسة غير “متكافئة بين الشركات الخاصة والشركات التابعة للدولة أو الجيش”.
وقال نجيب ساويرس خلال تلك المقابلة إنه “يجب أن تكون الدولة جهة تنظيمية وليست مالكة ” للنشاط الاقتصادي” مضيفًا بأن “الشركات المملوكة للحكومة أو للجيش لا تدفع ضرائب”.
وبينما تعج شبكة الانترنت بمواقع لوسائل إعلام أجنبية وعربية نشرت وتنشر تقارير عن حصص جيوش العالم في الاقتصاديات الوطنية منها ما هو معروف ومنها ما هو سرّي. وجدنا نجيب ومن بعده سميح ساويرس يتبادلان الظهور الإعلامي في شكل ملفت بتصريحات تنتقد اقتصاديات الحكومة والجيش المصري في أوقات حساسة يمر بها الاقتصاد المصري. ينتقدون بعنف ثم يحصلون على مزيد من المشروعات التي تقيمها الدولة أو الجيش، حدث ذلك بشكل متكرر في 2016 و2019 و2020 و2021 لصحف ووكالات أنباء إقليمية وعالمية”، كان آخرها حديث سميح ساويرس قبل أيام لقناة العربية السعودية عن الاقتصاد المصري، الذي وصفه بـ”المخنوق”. وكانت خطورة هذا التصريح أنه جاء في وقت عصيب بالنسبة للاقتصاد المصري، الأمر الذي يعتبر معه هذا التصريح بمثابة ضربة قوية لمساعي الحكومة المصرية في جذب المستثمرين إلى البلاد، في وقت روّج فيه “سميح” للاقتصاد السعودي.

للتذكرة.. يحتل نجيب ساويرس المرتبة الثانية ضمن قائمة أغنى أغنياء مصر بثروة قدرها 3.1 مليار دولار، فيما يتصدر أخوه ناصف ساويرس القائمة بثروة تبلغ 9مليار دولار، بحسب تقديرات مجلة فوربس الأمريكية.
جرأة آل ساويرس التي لم تكن هي الأولى، بل سبقتها انتقادات مماثلة، عن “سيطرة الجيش على الاقتصاد” بحسب مزاعمهم، دفعت مراقبين وصحفيين في مصر وخارجها للسؤال: “هل آل ساويرس خط أحمر لا تستطيع أنظمة الحكم المتعاقبة على مصر الاقتراب منهم أو عقابهم؟ ثم وكيف تصدّر تلك التصرحيات المتوالية عن عائلة اقتصادية ضخمة تعد من أكبر مقاولي الباطن الذين يعملون مع الدولة والحكومة والجيش في كل مشاريعهم وهم من أكبر المستفيدين من مشاريع الدولة والجيش؟ هل بسبب المزاعم المنتشرة عنهم بأنهم تحت الحماية الأمريكية أو الإسرائيلية؟ أم لأن العائلة في كل مرّة تنتقد فيها الأنظمة كانت تحصل على ما يرضيها فعجبتها الطريقة؟. حدث ذلك بشكل متكرر رغم اختلاف الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر.