في مثل هذا اليوم 30 أبريل 1998 رحل عنا الشاعر الأديب نزار قباني، عن 75 عاما، قضاها مبدعا، شاعرا وأديبا، أول من كتب بأبجدية الياسمين.
شعره يتدفق بعذوبة كنهر صاف رائق، لكنه في قصائد رثائه لزوجته كان بركانا يفجر الحمم ويصب النيران صبا على من قتلوها، وأيضا في قصيدته “هوامش على دفتر النكسة”، أمسك بسوط غليظ وأخذ يلهب ظهور من كانوا السبب في النكسة، وغيرها من القصائد التي زلزلت العالم العربي من المحيط إلى الخليج، أو من الماء إلى الماء، كما يقولون.
نزار أثار جدلا في جميع الأوساط الأدبية والنقدية والشعرية، بخروجه عن المألوف، بالغزل الصريح للمرأة، وعنايته بأدق تفاصيلها، فهاجت الدنيا عليه من المتشددين ومن الذين يدعون تمسكهم بالفضيلة، ومن أصحاب القلوب والعقول الغليظة، لم يناقشه أحدهم في ما يكتب، بل أطلقوا نيران كلماتهم الجارحة إلى شخصه، بينما كان بعضهم عائدا لتوه من حانة بصحبة ساقطة.
ولد نزار في دمشق القديمة في حيّ “مئذنة الشحم” في 21 مارس عام 1923، وشبّ وترعرع في بيتٍ دمشقيّ تقليديّ لأُسرَةٍ عربيَّة دمشقيَّة عريقة.
وبحسب ما يقول في مذكراته، فقد ورث القباني من أبيه، ميله نحو الشعر كما ورث عن جدّه حبه للفن بمختلف أشكاله.
يقول في مذكراته أيضًا، أنه خلال طفولته كان يحبّ الرسم، ولذلك “وجد نفسه بين الخامسة والثانية عشرة من عمره غارقًا في بحر من الألوان”، وقد ذكر أن سِرّ مَحبّته للجمال والألوان واللون الأخضر بالذات أنه في منزلهم الدمشقي كان لديهم أغلب أصناف الزروع الشاميّة من زنبق وريحان وياسمين ونعناع ونارنج.
وكأي فتىً في هذا السنّ، ما بين سن الخامسة عشر والسادسة عشر احتار كثيرًا ماذا يفعل، فبدأ بكونه خطّاطًا تتلمذ على يد خطّاط يدويّ ثم اتّجه للرسم، وما زال يَعشقُ الرسم حتّى أن له ديوانًا أسماهُ الرسم بالكلمات. ومن ثم شُغف بالموسيقى، وتعلّم على يد أستاذ خاصٍ العزفَ والتلحين على آلة العود، لكنّ الدراسة خاصة خلال المرحلة الثانوية، جعلته يعكف عنها.
ثُمّ رسا بالنهاية على الشعر، وراح يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، متتلمذًا على يدِ الشاعر خليل مردم بِك وقد علّمه أصول النحو والصرف والبديع.
خلال طفولته انتحرت شقيقته وصال، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبّه، وهو ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، وربَّما ساعد في صياغة فلسفته العشقيّة لاحقًا ومفهومه عن صراع المرأة لتحقيق ذاتها وأنوثتها.
ولم يكشف عن حقيقة هذه الحادثة باكرًا، بل قال إنها توفيت بمرض القلب، إلا أن كوليت خوري كشفت قصة الانتحار، وهو ما ثبت لاحقًا في مذكراته الخاصة، إذ كتب: “إن الحبّ في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره”.
يصف نزار حادثة الانتحار بقوله: “صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي، كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة”، كما ارتبط بعلاقة قوية مع أمه.
عام 1939 كان نزار في رحلة مدرسية بحريّة إلى روما، حين كتب أول أبياته الشعريّة متغزلًا بالأمواج والأسماك التي تسبح فيها، وله من العمر حينها 16 عامًا، ويعتبر تاريخ 15 أغسطس 1939 تاريخًا لميلاد نزار الشعري، كما يقول متابعوه.
وفي عام 1941 التحق نزار بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وتخرّج فيها في عام 1945.
ونشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعريّة وهو ديوان “قالت لي السمراء”، حيث قام بطبعه على نفقته الخاصة، وقد أثارت قصائد ديوانه الأول، جدلًا في الأوساط التعليمية في الجامعة، وقد كتبَ له مُقدّمة الديوان منير العجلاني الذي أحبّ القصائد ووافق عليها، وقد ذاع صيته بعد نشر الديوان، وفي تعليقه حول صدور ديوانه الأوّل كتب:”قالت لي السمراء” حين صدوره أحدث وجعًا عميقًا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريًا.
وتخرج نزار عام 1945 في كليّة الحقوق بجامعة دمشق، والتحق بوزارة الخارجية السوريّة، وفي العام نفسه عُيّن في السفارة السوريّة في مصر وله من العمر 22 عامًا.
ولمّا كان العمل الدبلوماسي من شروطه التنقّل لا الاستقرار، فلم تطل إقامة نزار في القاهرة، فانتقل منها إلى عواصم أخرى مختلفة، فقد عُيّن في عام 1952 سفيرًا لسوريا في المملكة المتحدة لمدة سنتين واتقن خلالها اللغة الإنجليزية، ثم عُيّن سفيرًا في أنقرة، ومن ثمّ في عام 1958 عيّن سفيرًا لسوريا في الصين لمدة عامين.
وفي عام 1962 عيّن سفيرًا لسوريا في مدريد لمدة 4 سنوات، إلى أن استقرَّ في لبنان بعد أن أعلن تفرغه للشعر في عام 1966, حيث أسس دار نشر خاصة تحت اسم «منشورات نزار قباني».
بدأ نزار قباني بشكل بارز بكتابة الشعر العمودي، ثم انتقل بعدها إلى شعر التفعيلة، حيث ساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير. تناولت كثير من قصائده قضية حرية المرأة، إذ تناولت دواوينه الأربعة الأولى قصائد رومانسية.
وتحوّل نحو الشعر السياسي بعد نكسة حرب 1967، وأصدر عدة قصائد لاذعة ضد الحكومات والأنظمة العربية عمومًا وضد حكم البعث في سوريا ومنها «هوامش على دفاتر النكسة»، و«عنترة» و«يوميات سياف عربي».
تزوج نزار مرّتين، زوجته الأولى كانت ابنة خاله زهراء آقبيق وأنجب منها هدباء وتوفيق، وقد توفيّ توفيق عام 1973 وكان طالبًا بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، والذي ترك الأثر الكبير في حياته، وقد نعاه نزار بقصيدة “الأمير الخرافي توفيق قباني”، وتوفيّت زوجته الأولى في 2007.
وكان زواجه الثاني من امرأة عراقيّة الأصل تُدعى بلقيس الراوي، التقى بها في أمسية شعريّة في بغداد، ولكنها لقيت حتفها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في حادث انتحاري استهدف السفارة العراقيّة في بيروت، حيث كانت تعمل عام 1982، وقد رثاها نزار بقصيدته الشهيرة بلقيس التي قال فيها إن الجميع كان لهم دورٌ بقتلها، وقد أنجب منها ابنيه عمر وزينب ولم يتزوّج بعدها.
بعد مقتل زوجته بلقيس، غادر نزار لبنان، وكان يتنقل بين باريس وجنيف حتى استقر في النهاية في لندن، حيث قضى الخمسة عشر عامًا الأخيرة من حياته، واستمرّ بنشر دواوينه وقصائده المثيرة للجدل خلال فترة التسعينيات ومنها «متى يعلنون وفاة العرب؟» و«المهرولون».
في عام 1997 كان قباني يعاني من تردي في وضعه الصحي، وبعد عدة أشهر توفي في 30 أبريل 1998 عن عمر ناهز 75 عامًا في لندن بسبب ازمة قلبية.
في وصيته التي كان قد كتبها عندما كان في المشفى في لندن أوصى بأن يتم دفنه في دمشق التي وصفها في وصيته:
«الرحم الذي علمني الشعر, الذي علمني الإبداع والذي علمني أبجدية الياسمين».
تم دفن قباني في دمشق بعد أربعة أيام، حيث دفن في باب الصغير بعد جنازة حاشدة شارك فيها مختلف أطياف المجتمع السوري، إلى جانب فنانين ومثقفين سوريين وعرب، ولقد كتبت عن جنازته الدكتورة ناديا خوست:
… وكانت طائرة خاصة سورية أرسلها الرئيس السوري قد نقلت جثمانه من لندن إلى دمشق. فخطف الدمشقيون تابوته، وحملوه على الأكتاف في موكب شعبي لم تشهد دمشق مثله إلا يوم تشييع رجل الاستقلال فخري البارودي مؤلف الأناشيد التي تناقلتها الشعوب العربية. حمله الناس إلى الجامع الأموي، وصلوا عليه، ثم حملوه على أكتافهم إلى المقبرة. قطعوا دمشق من شمالها إلى جنوبها مشيا.
قال النقاد عن نزار إنه “مدرسة شعرية” و”حالة اجتماعية وظاهرة ثقافية” وأسماهُ حسين بن حمزة “رئيس جمهورية الشعر”، كما لقبّه “أحد آباء القصيدة اليومية”: إذ قرّب الشعر من عامة الناس.
الأديب المصري أحمد عبد المعطي حجازي وصف نزار بكونه “شاعر حقيقي له لغته الخاصة، إلى جانب كونه جريئًا في لغته واختيار موضوعاته”، لكنه انتقد هذه الجرأة “التي وصلت في المرحلة الأخيرة من قصائده “لما يشبه السباب”.
الشاعر علي منصور قال إن نزار قد حفر اسمه في الذاكرة الجماعيّة وأنه شكل حالة لدى الجمهور “حتى يمكن اعتباره عمر بن أبي ربيعة في العصر الحديث”.
وعن شعره السياسي قال حسين بن حمزة: ” أذاق العرب صنوفًا من التقريظ جامعًا بين جلد الذات وجلد الحكام، في طريقة ناجعة للتنفيس عن الغضب والألم”.
وكانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» سببًا بجدال ضخم انتشر في دمشق ووصل تحت قبة البرلمان، نتيجة اعتراض بعض رجال الدين عليه ومطالبتهم بقتله، فما كان منه إلا أن أعاد نشرها خارج سوريا، رغم ذلك فقد قررت محافظة دمشق تسمية الشارع الذي ولد فيه على اسمه، وقد قال نزار إثر قرار المحافظة:
هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ، هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنّة. تذكروا أنني كنت يومًا ولدًا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره.
قال عنه الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة هو أنه (نقل موضوع الحب من الوصف الخارجي إلى موضوع خاص في الشعر العربي الحديث حيث لا يشبهه أحد).
في عام 2008 ولمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لمولده، وتزامنًا مع احتفالية دمشق “عاصمة الثقافة العربية” واليوم العالمي للشعر، طاف محبّو الشاعر وشخصيات من المجتمع المدني وألقوا في الشوارع والساحات قصائد له “عن عشق دمشق”، كما قامت الأمانة العامة للاحتفالية بطبع كتاب تذكاري عنه بعنوان «نزار قباني.. قنديل أخضر على باب دمشق» وهو من تأليف خالد حسين.
أثارت قصيدة نزار “خبز وحشيش وقمر” رجال الدين في سوريا ضده، وطالبوا بطرده من السلك الدبلوماسي، وانتقلت المعركة إلى البرلمان السوري وكان أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان:
عندما يُولدُ في الشرقِ القَمر
فالسطوحُ البيضُ تغفو…
تحتَ أكداسِ الزَّهرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ..
ويمضونَ زُمرْ
لملاقاةِ القمرْ..
أما قصيدة هوامش على دفتر النكسة، فقد أثارت عاصفة شديدة في العالم العربي، وأحدثت جدلًا كبيرًا بين المثقفين العرب، ولعنف القصيدة صدر قرار بمنع إذاعة أغاني نزار وأشعاره في الإذاعة والتليفزيون، ومنها:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ.
في عام 1974 كتب نزار قصيدته الشهيرة التي يتفاخر فيها بالنصر وحبه لدمشق:
شمس غرناطةَ أطلت علينا.. بعد يأس وزغردت ميسلون
يا دمشق البسي دموعي سوارًا.. وتمنّي.. فكلُّ شيء يهونُ
وضعي طَرحَةَ العروس لأجلي.. إنَّ مَهْرَ المُناضلات ثمينُ
نحنُ عكا ونحنُ كرمل حيفا.. وجبال الجليل واللطرونُ
كل ليمونة ستنجب طفلًا.. ومحالٌ أن ينتهي الليمونُ
وعندما قتلت زوجته بلقيس حمّل نزار الوطن العربي كله مسؤولية قتلها:
سأقول في التحقيق.. اني قد عرفت القاتلين
بلقيس.. يافرسي الجميلة..
إنني من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..
فما تركوا به وردا
ولا تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟
أما دواوينه فهي: قالت لي السمراء، طفولة نهد، سامبا، أنت لي، قصائد، حبيبتي، الرسم بالكلمات، يوميات امرأة لا مبالية، قصائد متوحشة، كتاب الحب، مئة رسالة حب، أشعار خارجة عن القانون، أحبك أحبك والبقية تأتي، إلى بيروت الأنثى مع حبي، كل عام وأنت حبيبتي، أشهد أن لا امرأة إلا أنت، اليوميات السرية لبهية المصرية، هكذا أكتب تاريخ النساء، قاموس العاشقين، قصيدة بلقيس، الحب لا يقف على الضوء الأحمر، أشعار مجنونة، قصائد مغضوب عليها، سيبقى الحب سيدي، ثلاثية أطفال الحجارة، الأوراق السرية لعاشق قرمطي، السيرة الذاتية لسياف عربي، تزوجتك أيتها الحرية، الكبريت في يدي ودولاتكم من ورق، هل تسمعين صهيل أحزاني؟، هوامش على الهوامش، أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، خمسون عامًا في مديح النساء، تنويعات نزارية على مقام العشق، أبجدية الياسمين.