سيداتى انساتى
الكاتب والناقد الفني شريف الوكيل يفتح لكم خزائن زمن الفن الجميل ويكتب لكم عن “سيداتي آنساتي” وصاحب المعادلة الصعبة في الإخراج
اليوم نتحدث معا عن شخصية من طراز خاص عرفته السينما كسيناريست وكاتب سينمائى ومخرج من الطراز الأول وهذه الأخيرة سيطرت عليه ليصبح واحدا من أهم مخرجيها الرواد… إنه المخرج رأفت الميهي صاحب الجرأة السياسية فى طرح وجهات نظره المثيرة للتأمل والجدل فى وقت واحد
كتب وأخرج وأنتج وشارك فى كثير من الأفلام، متنقلًا بين ساحات أفكاره البديعة والمجنونة فى الغالب، والتى تقريبا نال معظمها إعجاب المتفرجين إن لم يكن كلها بالفعل ، كما حقق المعادلة الصعبة بحصوله على إستحسان ناقديه ، تنقل الميهى مابين الاعمال السياسية والفنتازيا الممزوجة بالخيال المعجونة بالواقعية… ولهذا اعتبره النقاد فارسا من فرسان الخيال المصريين الحقيقيين، وذلك يعود لتنقلاته الذكية من سيناريوهات أفلامه “غروب وشروق، والأفوكاتو، والسادة الرجال، وسمك لبن تمر هندى، وسيداتى آنساتى”.
بدأ رأفت الميهي مشواره في السينما عام ١٩٥٦من خلال سيناريو وحوار فيلم “جفت الأمطار،لشكرى سرحان وسميحة أيوب، لكنه لم يحقق الجماهيرية المطلوبة، لينطلق بعد ذلك إلى الإبهار في ثانى فيلم من أفلامه التى كتب لها السيناريو والحوار “غروب وشروق” ذلك الفيلم الذي يعد واحدا من أفضل مئةفيلم في تاريخ السينما المصرية .
وتكتمل مرحلة النضج السينمائي من خلال سيناريوهات أفلام “شىء فى صدرى، والهارب، وعلى من نطلق الرصاص” والتي سجلت الأفضل في تلك المرحلة من عمر السينما المصرية، بالإضافة إلى أفلام، “غرباء، الحب الذي كان، أين عقلي، الرصاصة لاتزال فى جيبى، جمال عبد الناصر”.
تعاون رأفت الميهي مع كبار النجوم مثل عادل إمام في الأوفوكاتو، ومحمود ياسين في الرصاصة لاتزال في جيبي، وسعاد حسني في غروب وشروق، وأين عقلي، وكذلك مع محمود عبد العزيز في السادة الرجال، وسمك لبن تمر هندى، وسيداتى آنساتى، ويحيى الفخراني في للحب قصة أخيرة.
اتجه عام ١٩٨١ للإخراج حين قدم فيلم عيون لا تنام مع حسين فهمى ومديحة كامل، وأتبعه بفيلم (الأفوكاتو) عام ١٩٨٣ ثم، للحب قصة أخيرة، عام ١٩٨٦…كما اتجه للإخراج التليفزيوني، والتي لم تثمر سوى عن تجربة واحدة فقط خلال مسلسل “وكالة عطية”، عام ٢٠٠٩ عن رواية للكاتب خيري شلبي.
وخلال مشواره الفني حصلت بعض من أفلامه على جوائز من عدة مهرجانات مصرية ودولية، منها “كارلوفيفاري” الذي منح فيلم “للحب قصة أخيرة” جائزة خاصة، كما نال” قليل من الحب.. كثير من العنف” الجائزة الأولى في المهرجان القومي الخامس للأفلام الروائية في مصر .
إستطاع الميهى من خلال مخيلته وصوره المقلوبة، أن يقدم لنا رؤيته الخاصة للواقع الذى كنا نعيشه فى فترة الثمانينات والتسعينات، ليتحول من بعد مشواره السياسي إلى عالم الفانتازيا،فيقدم لنا من تأليفه وإخراجه فيلمه الساخر “سيداتى انساتى” من بطولة الفنان محمود عبد العزيز تشاركه معالى زايد وصفاء السبع وعبلة كامل وعائشة الكيلانى وأشرف عبد الباقى ويوسف داوود .
يواصل رأفت الميهي جنونه الفني المحبب له، في كشف الزيف الذي نعيشه فى الواقع ، ليناقش قضية إجتماعية شائكة مازالت قائمة بين الرجل والمرأة في المجتمعات الشرقية حتى الآن… فنجده يعرض للواقع المجنون بكل سلبياته وإيجابياته. فهو في هذا الفيلم، يلتقط بعض الأخطاء الإجتماعية والفكرية الشائعة، ويعيد صياغتها من خلال شكل فني فانتازي ساخر، مليء بالمتناقضات، معتمداً في ذلك على الخيال الممكن حدوثه في الواقع، يفترض رأفت الميهي فكرة مجنونة وخيالية لكنها واقعية فى نفس الوقت، من خلال توليفة كوميدية هزلية مناقشٱ قضية اجتماعية تؤرق الناس مشكلة “العنوسة” عندما يتقدم د. محمود (محمود عبدالعزيز)، الحاصل على الدكتوراه، للعمل كساع لزيادة أجره، وتقرر أربع فتيات تأخر بهن سن الزواج أن يتزوجن منه في آن واحد، للتغلب على أزمة السكن، بشرط بقاء العصمة في أيديهن…فهؤلاء البنات يعانين من مشكلة وصولهن لهذا السن المتأخر للزواج، وذلك يعود لأزمة الإسكان والإزمة الإقتصادية بشكل عام. لذا نراهن يقررن الزواج جميعاً من محمود مرة واحدة، والسكن معه في شقة واحدة، إختصاراً لأزمة السكن. كما يؤكد الميهي نظرته الإنسانية الواعية للواقع من خلال شخصية السيدة المسيحية العجوز تيريز، صاحبة البيت الكبير الذي يسكن فيه البنات الأربع، وزواجها من إبن البقال الشاب سامي (أشرف عبد الباقي)، والذي يؤمن بمنطقه الخاص في زواجه من العجوز تيريز، بحثاً عن حنان الأم والزوجة في وقت واحد. فزواج محمود من أربع، مثل زواج سامي من العجوز تيريز، كلاهما تعبير عن التناقضات التي نعيشها في حياتنا اليومية
وهكذا تصل بنا الإحداث والمواقف الكوميدية العبثية الى ذروتها، فأفكار الميهي، تتسلل الى أخطاء حياتنا اليومية ساخرة، تبعث فينا الإبتسامة ثم الضحكة التي تتفجر من الأعماق.. فهو بإستخدام اسلوب الأدوار المعكوسة يحاول طرح هموم الواقع اليومى، ومابه من فوضى وإنفلات ، وخلل العلاقات والسلوك والقيم التى تحكم العلاقات الأسرية والزوجيةوالتعليمية، وكذلك الفهم الخاطئ للشريعة، وعدم تقدير العلم والعلماء…من بين كل هذه الصور المقلوبة يتمكن الميهى من أن يجعلنا ساخرين معه على أخطائنا وممارساتنا اليومية، ونفيق بالتالي على الحقيقة، حتى وإن لم نجرؤ على ممارستها أو مواجهتها، ويكفي هذا الفنان أنه جعلنا ننتبه ونفكر ونضحك مما نفعله. مدركاً بأن اللامنطق والعبث قد أصبح عرف التعامل اليومي في الواقع، فكيف لا يستخدم أسلوباً أكثر عبثية للوصول الى المتفرج.
تألق الساحر”محمود عبد العزيز”بأدائه السلس الواعى بطبيعة الشخصية،والمدرك لأبعادها النفسية والإجتماعية والجسمانية بتعبيره الفائق بعينيه وعضلات وجهه، بالإضافة لطريقة نطقه للكلمات، ومهارته فى تقديم الكوميديا من خلال اللفتة أو الايمائة، ليثبت أنه ممثل من العيار الثقيل فقد إستطاع تقديم كل أنواع فنون السينما وحقق فيها نجاح غير مسبوق، فإستحق لقب الساحر وأيضا صانع البهجة عن جدارة وإستحقاق…قالت عنه الناقدة (ماجدة موريس) لأصوات مصرية إن محمود عبد العزيز قدم قضايا المرأة “بفهم عميق” وعرضت أفلامه القضايا المسكوت عنها والتي طالبت بالمساواة بين الرجل والمرأة داخل المنزل وفي العمل.
وأضافت “أهم المراحل في حياته هي المرحلة اللي كان فيها نجم أفلام رأفت الميهي، وجزء مهم من شخصيته أنه مزج بين الجد والهزل”…قدم الساحر اكثرمن مائة وعشرون عملا فنيا متنقلا بين السينما والتليفزيون والإذاعة…ولا يمكننا ان ننهى الكلام عنه دون ذكر المسلسل الأشهر”رأفت الهجان” والذى كان العمل الفارق فى كل أعماله التى قدمها للسينما والتليفزيون العربى .
شاركته معالى زايد فى دور القانونية المتزمتة من الخارج لكنها تحمل بداخلها امرأة ناضجة، فنجدها تتحول إلى راقصة لتسرى عن زوجها…كما كانت عبلة كامل بتلقائيتها وبساطتها ،وقدرتها على اظهار التناقض فى شخصيتها كطبيبة تدرك أهمية الجوانب الفسيولوجية للإنسان ، وبين رفضها الكامل للجنس، ونجحت فى الشخصيتين الطبيبة الجادة والحاسمة وأيضا الإنسانة الطيبة البسيطة مادامت بعيدة عن الرجال…وكان لصفاء السبع بملامحها المريحة الهادئة وأدائها المتزن، دورا مهما فى الفيلم وإن بدا فى حدته وجرأته شديد القسوة …وتأتى عائشة الكيلانى لتخلق بباسطتها وذكائها وخفة دمها لتضيف للحكاية لحظات من البهجة المغلفة بالشجن والآسي…أما يوسف داود فهو كعادته فى أفلام الميهى مصدرا للكوميديا القائمة على التناقض بين صفاته الجسمانية وتصرفاته الصغيرة وانبهاره وضعفه وانسياقة وراء رغباته…ثم أشرف عبد الباقى بطاقته الفنية وموهبته الواضحة، فى ادائه لدور الشاب الصغير الوديع المثقف والمهزوز وإحتياجه للرعاية والحنان والدفء .
لقد إستطاع رأفت الميهى أن يدير هذه المجموعة فى تناسق وتكافؤ، ولما لا وهى مجموعته المفضلة والتى شاركته فى فيلم السادة الرجال ثم سمك لبن تمر هندى وسيداتى انساتى…إنها سينما رأفت الميهى المقتحمة لمناطق حرجةبجرأة ووعى، فتكشف عن عبث الواقع واللامنطق الذى يسوده، من خلال الأوضاع المقلوبةالتى تبين أن الخلل المنتشر فى كل مؤسساتنا سببه الخلل الأكبر فى البناء الإقتصادى والإجتماعى والسياسي
فى واحد من أجرأ الأفلام التى قدمتها السينما المصرية…وسيظل اسم رأفت الميهى المتوفى عام ٢٠١٥، كواحد من أهم الأسماء فى عالم السينما العربية ، بقدراته المتميزة فى طرحه لأفكاره المصاحبة لرغبة حقيقية فى تغيير الواقع إلى الأفضل .
سيداتى آنساتى من تأليف وإخراج رأفت الميهى عام ١٩٩٠ ،وضع الموسيقى التصويرية له “محمد هلال” تمثيل محمود عبد العزيز معالى زايد وصفاء السبع وعبلة كامل وعائشة الكيلانى واشرف عبد الباقى ويوسف داود .
شريف الوكيل