الناقد الفني شريف الوكيل يجدد الغوص بكم في ذاكرة السينما المصرية ويكتب عن ملحمة شفيقة ومتولي
يزخر الأدب الشعبى المصرى بعشرات الحكايات الشعبية التى تتناول الموروث الروائى، الذى يمتلئ بالتراث الشيق والعديد من القصص والحكايات لاشخاص أثروا الحياة ببطولات وسير خلدها التراث الشعبى أمثال “أدهم الشرقاوى و عنترة بن شداد وعلى الزيبق وحسن ونعيمة وأيضا شفيقة ومتولى” وهذه الحكايات وجدها مبدعوا الدراما المصرية مادة خصبة لتناولها فى السينما والتليفزيون .
وعلى قمة هؤلاء المبدعين كان “صلاح جاهين” صاحب الرؤية الأولى لملحمة شفيقة ومتولى، ليعيد صياغتها فنيٱ، من خلال قصة كان قد كتبها “شوقى عبد الحكيم” الكاتب المسرحي المصري، والروائي، والباحث في التراث الشعبي، وهو من أهم الأدباء الذين جمعوا التراثَ المصري وقدَّموه في شكلٍ مسرحي وتوثيقي، حيث تنوَّعَتْ أعمالُه بين المسرحيات والروايات والأبحاث والمقالات، وقد بدأ بنشر كتاب «أدب الفلاحين» الذي جمع فيه الكثيرَ من الحكايات الشعبية الريفية المصرية التي سمعها في فترة طفولته ومراهقته في القرية، وقد نال الكتاب إعجابَ النقَّاد المعاصرين له بشكلٍ كبيرٍ، فكان معين لكثير من المهتمين بفنون السينما والمسرح والتليفزيون، فى تحويل بعض الحكايات الشعبية الشهيرة والمعروفة لدى عامة الناس إلى أعمال سينمائية مثل: «حسن ونعيمة» و«شفيقة ومتولي» وهنا نعرض اليوم لأحد الملاحم الشعبية التى أرخت لحفر قناة السويس، فيلم شفيقة ومتولى الذى تدور قصته حول استدعاء السلطة للقروى الشاب {متولى}، العائل الوحيد لأسرته “للجهادية” والعمل فى حفر قناة السويس، الفيلم انتاج عام ١٩٧٨، كتب له السيناريو والحوار العبقرى صلاح جاهين، والذى قدمه للمخرج على بدرخان، فإختار لبطولته نخبة من الفنانين المتميزين على رأسهم أحمد زكى وسعاد حسنى، ليتعاونا معٱ فى طرح رؤية عصرية استلهمت كل عناصر، الحكاية الشعبية الشهيرة، عن شفيقة، التى دفعها الفقر والبؤس بعد فقدها لأخيها، لإستغلال فتنتها وجمالها فى إغواء الرجال، لتلقى جزائها الأخلاقى بالقتل على يد أخيها متولى .
يذكر أن الفيلم في البداية كان منسوب للمنتج والمخرج د.سيد عيسى الذي باع الكثير من ممتلكاته كي تتوافر له السيولة اللازمة لتمويل الفيلم ولتحقيق حلم عمره بإنتاج وإخراج فيلم بمستوى عالمي، ولكن
“توترت العلاقة” بين سيد عيسى المخرج وسعاد حسني بطلة العمل، كادت أن تهدد بانسحابها من الفيلم وترشيح بطلة أخرى بدلٱ منها لتلعب دورها .
وتدخل المنتج جان خوري لفض الخلاف فأقنع سيد عيسى بالتخلى عن الفيلم، وانتقلت إلى جان المنتج الجديد ملكية الفيلم بكامله، فكلف المخرج يوسف شاهين لإكمال التصوير”. ولكن يصاب يوسف شاهين بوعكة صحية بعد أيام قليلة من بداية تصوير الفيلم، فإضطر لإجراء جراحة بالقلب، وكان “على بدرخان” يعمل مساعدٱ له، فطلب منه استكمال الفيلم، ونظرا لسوء حالة شاهين الصحية، بدأ بدرخان يخطو بالفيلم أولى خطواته الجادة في التصوير، ليستمتع الجمهور في النهاية بملحمة شعبية برع الجميع في تجسيدها، بعد أن وضع عليه بدرخان صياغته الدرامية وفكره وفنه ورؤيته الخاصة بعيدا عن رؤي يوسف شاهين.
ويتحدث بدرخان عن الفيلم فيقول: ( وجدت أنه يمكن مناقشة قضايا معاصرة من خلال الأسطورة الشعبية القديمة، كالعلاقة بين الشرق والغرب، والإنفتاح على الغرب الذي حدث في الماضي ويحدث الآن ثانية… ومن هنا تحمست للفيلم وأعدت بعض المشاهد وأكملته حسب رؤيتي الخاصة)… وقد نقلنا السيناريو الذي نفذه صلاح جاهين، بالقصة الأصلية إلى فترة حفر قناة السويس مسرحأ للأحداث، حينما كانت مصر ترزح تحت وطأة طبقة الباشوات والإقطاعيين، فترة الصراعات بين إنجلترا وفرنسا، حيث إستطاعت الأخيرة إستغلال الصداقة بين الحكومة الفرنسية والمصرية (وذلك لإضفاء بعد سياسي على الأحداث الدرامية) مما أعطى للفيلم طابعاً خاصاً ومميزاً، وخلق مناخاً اجتماعيا ذو إبعاد سياسية واستعمارية تتحكم في مصير الشعب المصري، الذي حفر القناة بسواعده وأرواحه
…هذا وقد إستعان المخرج بعنصر من العناصر المهمة الذى ساعد فى نجاح الفيلم وهو الفنان التشكيلي”ناجى شاكر” الذي ساهم بلمساته السحرية والفنية في أحياء بعض مشاهد الفيلم بديكوراته المميزة، ونجح في نقل المشاهد لفترة زمنية معينة، وهي الفترة التي يدور حولها العمل، والتعايش مع الشخصيات…لقد استطاع على بدرخان، ووفق كثيراً ـ بمساعدة الألوان والإضاءة والإكسسوارات، في الإيحاء بأجواء تلك الفترة التاريخية. كما نجح في تصوير مدى القسوة والظلم والطغيان، الذي وقع على أفراد الشعب المصري، من خلال عمل مشاهد قوية تتميز بالواقعية والصدق وقد تمثلت في مشاهد حفر القناة، ومشهد مقتل أحد العاملين بحفر القناة، ومشاهد المجاعة والوباء المنتشرين بين العمال، وتصوير معاناتهم في تحمل كل هذا .
وتعتبر حكاية شفيقة ومتولى ليست قصة حب بين طرفى الحكاية بالمعنى المفهوم كما فى حكاية حسن ونعيمة أو قيس وليلى وجميل وبثينة، وإنما طرفاها هما شقيقان، يجمع بينهما الحب الأخوى أيضا بمعناه المفهوم
فالأخ هو العائل والغطاء والحماية والأمان …إختار جاهين أسلوب الراوى كما فى سائر السير الشعبية، فيشرح ويوضح ويعلق على الأحداث بصوته، كل هذا من خلال علاقة جدلية بين حياة متولى وواقع شفيقة، عن طريق السرد المتوازى فتقع شفيقة تحت ضغط الفقر والخواء النفسى مفتقدة للحماية من جانب أخيها االذى تم ترحيله للعمل بالحفر…لتسقط فى براثن دياب”محمود عبد العزيز” ذلك الشاب المستهتر الفاسد، إبن (شيخ البلد) .
والذى استغل الرغبة الجامحة لشفيقة”سعاد حسنى” وهى تقف فى وسط المولد المقام بقريتها ، تهفو نفسها لعقد تزين به صدرها أوخلخال يبرز جمال ساقيها، ليلمح دياب هذه الرغبة فى عينيها، ليلعب بخبث على مناطق الضعف عندها، ليختلى بها فى ظلمة الليل ،فتقدم له نفسها طائعة، ظنا منها أنها وجدت الملاذ عنده …لتتحول حياتها بعد إكتشافها أن دياب ماهو إلا صائد ماهر فى صيد النساء، لتقرر فى صورة شبه إنتقامية ، إحتراف الدعارة…ويتمكن مخرجنا من دمج احاسيس ومشاعر شفيقة اثناء قيامها بهذا العمل فى شكل مأساوى مؤلم، اثناء تخيلها للعقاب القادم لامحالة وعيا منها بما تفعله، وإقتراب نهايتها، فتنفصل بروحها عن ذلك الرجل الرازح عليها، فترى أخيها متولى يقوم بقتلها، لتسقط مضرجة بدمائها وتحاول عبثا الإمساك به, لتلطخ ثيابه بدمها، لتفيق على ذلك الرجل وهو يلقى لها بالفتات، ليتكرر المشهد كثيرا بعد أن أصبحت فريسة سهلة يتصيدها باشوات ذلك العصر .
إن شفيقة ضحية من ضمن آلاف ضحايا القهر والفقر والإستغلال، الذى عانت منه مصروأبنائها، حيث تدهورت الحالة الإقتصادية والإجتماعية، وإنهارت العلاقات داخل المجتمع، فغابت المقومات الأساسية للحياة، مما دفع بالإنسان المصرى الى الإنتحار المادى أو المعنوى…لقد اكتسبت حكاية الثنائى شفيقة ومتولى عند صلاح جاهين بعدا جديدا، نزع عنها أحادية النظرة الخلقية، ووصل بها إلى رؤية المجتمع ككل، من خلال خلفية تاريخية استحدثها ، تمثل منعطفا مهما فى تاريخ مصر المعاصر .
صعدت بنا الفنانة المتعددة سعاد حسنى لقمة أدائها، مجسدة معانى القهر المادى والمعنوى بعمق ووعى، ومعبرة بحساسية عالية فى لحظات الإنكسار والأسى والمهانة والخوف، تألقت السندريلا كما كانت تحب أن تنادى بهذا الأسم، وإستطاعت أن تتكيف مع الشخصية فظهر نبوغها الفنى الذى أشاد به الجميع ، فكان مشهد المولد ونظرات شفيقة وعجزها لفقرها عن مشاركة أهل القرية بهجتهم…كان أداء إبنة حى بولاق المولودة لعائلة فنية فوالدها كان من أكبر الخطاطين، وأختها هى الفنانة الرقيقة”نجاة الصغيرة” عملت سعاد حسنى فى الفن منذ صغرها مع بابا شارو (ملك برامج الأطفال) فى ذلك الزمن، فاقت شهرتها الآفاق وعرفت بخفة دمها وشقاوتها وجمالها ، وكانت تنافس الجميع لتكون نجمة القرن العشرين…فقدمت مسيرة من الغناء والتمثيل والإستعراض، جعلتها تتربع كنجمة فى قلوب محبيها وكانت على حق النجمة التى (ترقص وتمثل وتغنى).
قدمت للسينما حوالى إثنان وثمانون فيلمٱ، ومسلسلا واحدا للتليفزيون “هو وهى” مع النجم احمد زكى أيضا ، وحصلت على العديد من الجوائز، وتم تكريمها من الرئيس الأسبق لمصر أنور السادات فى عيد الفن .توفيت عام ٢٠٠١ فى ظروف غامضة ولم يقف احد حتى اليوم على ملابسات وفاتها .
وإذا كان سيناريو الفيلم قد قلص دور متولى، رغم ثنائية الحكاية وأهميتها بها إلا أن الفنان أحمد زكى قدم واحدا من أهم الأدوار التى لفتت إليه الأنظار، فى تلك الفترة بأدائه المعبر التلقائى ، متفوقا على الجميع وكان دورالفنان”محمود عبد العزيز” متواضعا بالنسبة لأمكانياته الفنية التى يمتلكها، وربما يرجع ذلك لأنه لم يكن قد إستطاع “بلورة” اسلوب خاص له فى أدائه، عكس الفنان “احمد مظهر” والذى نجح فى تقديم شخصية (الطرابيشى) أحد عناصر الفساد، الذين كونوا ثروتهم من جثث الفلاحين والعمال، والمتاجرة فى الأنفار، فقد أدى مشهد تعرضه للموت فنجده وقد حافظ على رباطة جأش ظاهرية بإستخدام طبقة صوتية متعادلة، ووجه جامد تتسلل إليه لحظات من الهلع المكبوته…ويوظف المخرج الفنان “جميل راتب” فى دور (يسرى باشا) حيث يؤدى دور وسيط الموت فى إصدار أوامره بإرسال الشباب والرجال، إلى حتفهم من القرية إلى القناة، ليموتون تحت حرقة الشمس، ومن شدة العطش، فنجده شخصية (مازوكية) تستعذب الأهانة والإذلال، إذ يطلب من شفيقة أن تقوم بجلده بالكرباج، حتى يتمكن منها، كما كان يحلو له أن يقلد القرد وعمل (عجين الفلاحة، ونوم العازب) فقد إستطاع جميل راتب مستخدما شراسته وطباعه الحادة مع صوته المرعب أحيانا، أن يؤدى دوره بمهارة لتجسيده شخصية أحد رجال الطبقة الحاكمة، بصلفه وعنته وضعفه وشذوذه…
وينقلنا الراوى لمجموعات العمال المغلوبين على أمرهم وهم يزحفون فى بؤس وشقاء، فى لقطة تداخلية معبرة بصوت صلاح جاهين{ بيشقوا بحر الكنال والشمس تلفحهم، مايرتاحوش إلا لما الموت يريحهم، أو النفر من العطش يحصل فى عقله جنان} .
ولم يغب عن السيناريو والإخراج أن يظهر فى بعض المواقف، دور المحفز للهمم عن طريق الطبيب “صبرى عبد المنعم” بوعيه ووطنيته، والذى يعجز عن إنقاذ مواطنيه…يرفض منطق السلطة، فى “أن البنى آدم مالوش قيمة” حيث يعلن للعمال ومنهم متولى أن “البنى آدم له قيمة، بس هو اللى يدافع عنها، غير كده يشترى ويتباع، ويتعمل منه أى حاجة” …وهنا تظهر براعة على بدرخان الحرفية فى توظيفه لعناصر الصورة التى ابدعها كل من عبد الحليم ومحسن نصر، من خلال تشكيلات جمالية تتسم بالبلاغة البصرية، وجمال التكوين ،كذلك خلق إيقاع متدفق ينبض بالحيوية وتوظيف الصوت مرتين للتعبير عن داخل الشخصية ، مثلما جاء فى مشهد غواية هنادى “ملك الجمل” لشفيقة بأن تفكر فى نفسها، وتخلع ثياب الحزن وتحضر المولد، فى نفس الوقت نلمح تردد شفيقة وهى تقتحم أصوات الصخب المنبعث من المولد، ولكن تستطيع الأصوات العالية من خلال الموسيقى، أن تجهز على مقاومة شفيقة، ليبتلعها زحام المولد وتذوب فيه وقد استحوذت عليها الأمانى .
…ويحدث ذلك مرة ثانية، عندما تواجه دياب بخيانته لها، فيعترف بها مبررا بأن الفقر يقتل الحب، ليتقلص وجه شفيقة تبدو كما لو أنها توصلت لقرار خطير، ليقتحم صوت الموسيقى أصوات مجون زبائن فلة “نعيمة الصغير” قبل أن نرى شفيقة وسطهم تشرب وتسكر، وتبيع جسدها لمن يدفع الثمن… وبالرغم من أن بعض الأغاني كانت طويلة بعض الشئ، إلا أن مشهد المولد« يعد من بين أهم مشاهد الفيلم، بديكوراته الضخمة وتصوير حياة المولد الطبيعية من موسيقى ورقص ومرح. كما أن هناك مشاهد برع في تجسيدها بدرخان، مثل حمام الخيول في البحر، ومشهد جلب متولي للسخرة، إضافة إلى مشهد عودته للقرية. أما مشهد النهاية، فقد كان لمخرجنا وجهة نظر في تغييره.. تلك النهاية التي يسقط فيها متولي وشفيقة تحت رصاص السلطة. حيث يعتبر بدرخان الاثنان ضحية لقوى أكبر وأقوى منهما، وهي القوى التي تسحقهما في النهاية.
فيلم شفيقة ومتولى يمثل تجربة مهمة، فى تناول الموروث الشعبى، معتمدا على العناصر التراثية، وكيفية توظيفها لطرح رؤية معاصرة،تكشف عن التأثير الشديد لفقدان الإستقلال الإقتصادى على. الأفراد، محدثا خللا فى العلاقات الإجتماعية، ومن ثم فقدان الإستقلال السياسى .
من هذ المنطلق تمكن على بدرخان ومعه القائمين على الفيلم ، من الوقوف كمجموعة متجانسة ومتفاهمة، فى تحديد وإستخدام عناصر الصورة والديكور والإكسسورات والملابس، وأيضا إختيار جيد لزوايا التصوير، فتوفر أفضل مناخ للإبداع . إن (شفيقة ومتولي) ليس فيلماً متكاملاً من الناحية الفنية، إنما أهم مايميزه هو أنه أضخم إنتاج سينمائي في موسم ١٩٧٨ والموسمين السابقين له. حيث اشترك فيه حشد كبير من الفنانين الجادين والباحثين عن سينما جادة وجيدة .. مثل يوسف شاهين كمنتج ، وعلي بدرخان كمخرج ، وصلاح جاهين كسيناريست، ومحسن نصر كمدير تصوير وسعيد الشيخ للمونتاج، وناجى شاكر للديكورات وفؤاد الظاهرى للموسيقى التصويرية إضافة إلى مجموعة كبيرة من الفنانبن المتميزين وهم : سعاد حسني وأحمد زكي وأحمد مظهر وجميل راتب ومحمود عبد العزيز وملك الجمل وصبرى عبد المنعم ويونس شلبى ونعيمة الصغير ومحمود الجندى وعبد الوارث عسر والمطرب شفيق جلال .