درب المهابيل 1955.. قراءة نقدية يكتبها شريف الوكيل
فى رحلة طویلة من الإبداع السینمائى الرائع ترك لنا المخرج (توفیق صالح) مجموعة غیر كثیرة من الأفلام مابین الروائیة والأفلامالقصیرة، وللأسف الشدید لم یستطع إبن الإسكندریة الجرئ سوى تقدیم سبعة أفلام طویلة روائیة معظمها توغلت فى قلب القاهرة بمقاهیها وشوارعها وحواریها المختلطة برائحة الناس، التى تمازجت برائحة عبق التاریخ ، سافر توفیق صالح إلى فرنسا وتعرف فیها على مدارس الفن التشكیلى الحدیث، واتجاهاته المختلفة ،كما مال نحو میدان الموسیقى المبدع وقدراته على التجرید وصولا إلى الجوهر والروح بأصواتالآلات وتنوع إیقاعاتها .
تمكن توفیق صالح أیضا أن یخطو خطواته الأولى فى قراءة السینما وممارستها والتوغل فى استودیوهاتها الكبیرة وتدرب على ید فنانین ومخرجین لهم باع طویل بالسینما الفرنسیة والعالمیة .ولم یكن هذا بدایة إرتباطه بالمجال السینمائى فهو له سابقة فى دخوله لهذا الوسط من خلال عمله مساعدا للمخرج حسین فوزى لكنها فترة غیر طویلة، حیث توترت العلاقة بینهما وكانت {نعیمة عاكف} زوجة حسین فوزى طرفا مهما فى الخلاف وقتها، كما عمل مع المخرج عباس كامل اثناء إخراج فیلم “مندیل الحلو” .
رجع مخرجنا توفیق صالح لمصر سنة ١٩٥٣ وهو محملا بفنون متعددة مثل الرسم الفوتوغرافى والموسیقى كما درس الفلسفة والأدب الروسى، وتقدم للإخراج فى العشرینات من عمره، عندما أصبحت السینما عنده أداة فى فهم الحیاة والإنسان والعالم، وساعدته علاقتهالقویة بالكاتب “نجیب محفوظ” وبقیة شلته فى الخمسینات وكان من بینهم”عبد الحمید جودة السحار” ، والذى اشترك معه فى إنتاج فیلمه الأول “درب المهابیل” الذى یعد واحد من أهم وأنضج أفلام السینما المصریة طوال تاریخها العامر، ویكتسب درب المهابیل أهمیته وقدرته من السرد السینمائى دون مط أو لغو فارغ، والإعتماد على تفاصیل الحیاة الیومیة فى إحدى الحارات الشعبیة التى تعكس طابع
هذه الحیاة بعلاقتها الغنیة والمؤثرة ، ویكشف فیلمنا بدقة هذه التفاصیل عن عامل هام من عوامل الثقافة الشعبیة وتغلغلها داخل مجتمع الحارة بتأثیراتها المتفاوتة .
فجمیع أهل الحارة لایملكون غیر طموحات صغیرة فى إنتظار الفرج عن طریق أى معجزة لتحقیق هذه الآمانى حتى لو كانت “مصباح علاء الدین” ، فقد إعتمد السرد كما أسلفنا على تفاصیل الحیاة الیومیة لأهل الحارة من خلال تلك العلاقة العاطفیة التى تربط بین طه(شكرى سرحان) وبین جمیلة الحارة خدیجة(برلنتى عبد الحمید) ثم علاقات أهل الحارة ببعضهم فى أثناء عملهم الیومى من خلال تحركاتهم داخل الحارة ، فكل منهم له مهنة من المهن البرجوازیة الصغیرة والتى كانت تعج بها كل حارات مصر فى ذلك الوقت كالعجلاتى والفران والقهوجى وغیرهم ، وبإختلاف هذه المهن یكون
إختلاف مصالحهم وتركیباتهم النفسیة وصفاتهم الخاصة ، التى تجعل ردود الفعل إزاء أحداث الحارة الیومیة شدیدة التباین خاصة فى مواجهة أنفسهم (أهل الحارة) فهم لا أخیار ولا أشرار وإنما شخصیات فقیرة تحمل أحلام بسیطة فى أن تعیش مستورة فى كرامة وعزة نفس ، الجمیع یعیشون فى حلم واحد وهو تحقیق هذا الحلم كل فیما یخصه وأیضا لیظفر كل واحد بحلمه .
الكل ینتمون للحارة فیماعدا إثنان لیسا من ساكنیها هما “قفة” المجذوب(عبد الغنى قمر) وبصحبته عنزته، والفتاة “بائعة الیانصیب”وبدخولهما الحارة یكونان سببا مباشرا فى توتر العلاقات بین أهلها ،عندما یشترى طه ورقة یناصیب من الفتاة تخلصا من إلحاحها المزعج، ویعطیها لخطیبته خدیجة فیعرف والدها ویطالبها أن ترمیها فورا ” ربنا یغنینا بالحلال” فتلقیها ، فیلتقطها طفل ویلح على المجذوب أن یأخذها ویعطیه بالمقابل شربة لبن من “المعزة عزیزة” فیأخذها منه قفة على مضض فهى مجرد ورقة لاتساوى شیئا .
غیر أن صباح الیوم التالى یأتى صوتا یشق الحارة( كسبت البریمو یاسطى طه) ومنذ هذه اللحظة یأخذنا السرد على معرفة موقف الحارة من وفود تلك الثروة المفاجئة التى نزلت على قفة بطریق الصدفة ولكن تأبى سخریة القدر إلا أن تذهب بها إلى حیث لا یتوقع أحد؛ مما یؤدي إلى قلب حیاة الحارة رأسا على عقب والكشف عن حقیقتها المرعبة، الراقدة خلف مظاهر المحبة والتودد الزائفة بین سكانها.
موضوع الفیلم فى الأصل كانت رؤیة كتبها “توفیق صالح” أثناء إقامته فى باریس، وعرضها على “نجیب محفوظ” لیقدم لها معالجة سینمائیة فنصحه محفوظ بعدم تنفیذها “لئلا یتم إتهامة بالشیوعیة” وقتها، وقام محفوظ بإعادة صیاغتها مغیّرا موقع الأحداث إلى حارة قاهریة وأعطاها عنوان “درب المهابیل”.
توجد حارة “درب المهاببل” بمنطقة وسط القاهرة فى المنطقة الواقعة خلف شارع عبد العزیز التجارى وشارع محمد على التاریخى وتعددت أسباب تسمیتها بهذا الاسم فلا أحد یعرف على وجه التحدید سبب هذه التسمیة ، الجمیل فى الأمر أنه عندما یقع رنین ذالك الأسم على سمع الناس تظنه فیلما كومیدیا، لكن الفیلم یعج بالدراما المؤلمة والواقعیة الصادمة .
قدم شخصیة طه الفنان شكرى سرحان الذى استطاع بموهبته وقدراته الفنیة على مدار ٤٥ سنة من تقدیم اكثر من ١٥ فیلم فى ادوار متعددة لم یكرر مطلقا شخصیاته ، ونادرا ماتراه یقدم دور مشابه لدور قدمه من قبل، فهو مرة یقدم دور الرومانسى ومرة یقدم دور ابن البلد ودور القروى الساذج وكذلك دور الشاب الثورى، وایضا دور السفاح المظلوم والمطارد .
ونظرا لملامحه المصریة الأصیلة وشهامة أولاد البلد التى تظهر فى كل تصرفاته، فكانت سببا فى أن یلقبونه “ابن النیل” ، كما اطلق علیه بعض النقاد لقب “ماستوریانى”لتشابه أسلوبه والنجم الإیطالى المعروف (مارشیللوماستوریانى) وقد كان نموذجا للشباب والرجل الإیطالي، كانت بدایة شكرى سرحان بفیلم كرسى الإعتراف مع یوسف وهبى وفاتن حمامة سنة ١٩٤٩ ،وذلك بعد تقدیمه لعدد من المسرحیات الناجحة على خشبة المسرح القومى وقد لفتت إلیه الأنظار، فعمل مع المخرج “یوسف شاهین” فیلمه ابن النیل والذى كان انطلاقة لیوسف شاهین كمخرج. وتوالت اعمال شكرى الرائعة التى شكلت علامات فى السینما المصریةقدمها خلال حیاته الفنیة فقدم على
سبیل المثال لا الحصر فیلم صراع الأبطال ورجل فى حیاتى ثم اللص والكلاب وشباب أمرأة وفیلم قندیل أم هاشم والزوجة الثانیة ورد قلبى، ولا ننسى له دوره فى فیلم زائر الفجر وهو من الأفلام السیاسیةالمهمة فى السینما المصریة وأیضا فیلم عودة الإبن الضال .
الكلام عن شكرى سرحان لاینقطع ولاینتهى وسوف نتحدث عنه بتفصیل اكبر فى أعمال قادمة ، ولكن بقى أن نعرف أنه نال الكثیر من الجوائز والتكربمات والأوسمة ویكفى أنه الممثل المصرى الوحید الذى حصل على جائزة أفضل ممثل فى تاریخ السینما المصریة، أما {برلنتى عبد الحمید} إبنة حى السیدة والحاصلة على دبلوم التطریز تقدمت لمعهد الفنون المسرحیة بقسم النقد، وعندما شاهدها الفنان (زكى طلیمات) نصحها بأن تلتحق بمعهد التمثیل وتخرجت منه وأثناء عملها فى مسرحیة لها شاهدها احد الفنانین العالمیین فأسند إلیها دورا فى أول ظهور لها بالسینما فى فیلم شم النسیم سنة ١٩٥٢ ثم قدمت بعض المسرحیات العالمیة وصادفت المخرج صلاح ابوسیف
الذى أشركها كممثلة رئیسیة فى فیلم ریا وسكینة فى نفس السنة ومنه كانت إنطلاقة برلنتى الفنیة، وقد استطاعت أن تقدم فى درب المهابیل وبأداء جید دور خدیجة رغم أنها أول بطولة حقیقیة لها ، وتمكنت من أن تجسد أحلام بنت البلد المخلصة التى ترى أن من واجبها ان تساعد خطیبها لیتزوجها دون أن تشعره بالمنح أو العطف .
وقد تمكن المخرج من إختیار مجموعة من عمالقة المسرح والسینما فى تلك الفترة منهم “توفیق الدقن” فى دور عبده ابن الحاج عمارة العجلاتى”حسن البارودى” المعروف بالبخل الشدید ، نذكر له مشهد ظریف عندما رأى إبنه وهو یتناول إفطاره فیصرخ فیه { یابنى أمك ماتت من الحش هو ایه ملو كرش وبعزقة قرش} معبرا عن شخصیته من خلال صوته الممیز وإرتعاشة یدیه ونظرة عینیه الغیر مستقرة، كما یقدم السیناریو باقى شخصیاته “احمد عبد العزیز” بدور الحاج عزوز والد خدیجة المنشغل بلیالى الذكر والدروشة وتأتى زوجته “رفیعة الشال” الرافضة لإنشغال زوجها بإضاعة وقته فى الدروشة، ثم “شفیق نور الدین” عم مدبولى بائع الفول، والشیخ عزوز”سعد أردش”شیخ الزاویة، ویتابع السیناریو تقدیم صاحب المقهى المعلم شلبى”احمد الجزیرى”، یلیه مهنا تاجر الأثاث المستعمل”عبد الغنى النجدى” ثم سنیة بیومى العاهرة”نادیة السبع”، وبائعةالیانصیب”الهام زكى” وأخیرا قفة المخبول الشخصیة المحوریة فى الفیلم ویؤدى دورها بإقتدار”عبد الغنى قمر” وهو یجرى وسط الحارة وبین المارة فى ثیابه البالیة ومسبحته الطویلة وعلب الصفیح الملتفة حول عنقه
وتتدلى على صدره فتصدر صوتا معلنة وصوله الحارة بصحبة معزته عزیزة، ویتباین موقف أهل الحارة منه ، فمنهم من یتبارك به ومنهم من ینهره ویبعده من أمام محله متشائما .
وبهذه الشخصیات المتعددة والمكان والزمان تظهر براعة الكاتب نجیب محفوظ مشاركا له الكاتب عبد الحمید جودة السحار فى رسم خریطة الحارة وتبایناتها المختلفة وعلاقاتها ببعضها وبدقة متناهیة لتصویر طابعها الإجتماعى ، فى تأكید وإشباع لهذه العلاقات الأساسیة التى تربط أهل الدرب من خلال سهرات المقهى وحلقات الذكر فنسمع دقات الزار من خلال الظلال على حوائط المنازل ، كما نرى لقطات تجمع مابین طه وخدیجة على سطح المنزل فى تناغم عاطفى حالم، وسنیة وعبده وهما یمارسان الجنس بعنف وشراهة ، ورغم إختلاف العلاقات الثنائیة یجمعهما رابط واحد شدة الإحتیاج للمال فالجمیع یحلم بالزواج والستر وبطبیعة الحال لن نتطرق إلى تفصیلات المكان لكل الشخصیات لعدم التطویل والتكرار ولكن یبقى أن نشیر إلى أن تشكیلات المكان على النحو الظاهر بالفیلم قد أتاحت الحركة الكافیة للممثلین أمام الكامیرات دون إحساس بضیق او توتر مما ساعد ذلك على إضفاء قدر من الحیویة فى الأداء ، كما لعبت الصورة من خلال كامیرات عبد العزیز فهمى تنوعا فى التنقل بین أشخاص الفیلم بإستغلال الإضاءة بشئ من التفصیل برغم أعتماده على مصادر إضاءة داخلیة ، فقد إستطاع خلق نوع من التناغم والتنویع بین الأبیض والأسود فى نعومة شدیدة ، وظهر ذلك من خلال مشهد لحسن البارودى وهو یقوم بمراجعة وعد نقوده مع التوزیع الرائع للإضاءة بشئ یضفى قدرا من الشك والغموض حول ملابسات اللقطة نفسها .
ولكن على الرغم من كل هذه المكونات الشدیدة الغنى للصورة تأتى الموسیقى التصویریة لعبد العزیز محمد كأنها تعمل وحدها ، بطریقةلا تستقیم مع دلالة اللقطة وطابعها العاطفى من خلال نغمة واحدة أكثف من مكونات اللقطة نفسها .
یذكر أن فیلم ” درب المهابیل ١٩٥٥ ” یحتل المركز رقم ٤٢ فى قائمة أفضل ١٠٠ فیلم فى ذاكرة السینما المصریة .