النداهة
من المعروف أن الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ هو أبو الرواية العربية، وكذلك الأديب الكبير الراحل توفيق الحكيم هو أبو المسرح العربى، واليوم موعدنا مع أبو القصة القصيرة وأحد رواد ذلك الفن الأدبى الكبير، وأحد أهم من ساهموا وتركوا إرثًا أدبيًا كبيرًا ما بين القصة والرواية، لكن ظلت الأولى معشوقته هو الدكتور يوسف إدريس، تشيكوف القصة القصيرة المصرى العربى .
وتعد قصة النداهه احدي روائع الأديب يوسف ادريس، صدرت عام ١٩٦٩، في مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم وقد جسدت النداهة اغراءات المدينة لأهل الريف، كما كشفت ضجيج المدينة، الذي اغتال براءة فتحية التي لعبت دورها الفنانة “ماجدة”حيث تتزوج من حامد “شكرى سرحان” حارس عمارة في المدينة، وتنتقل للإقامة معه بها ويقوم احد سكان العمارة علاء “ايهاب نافع”، باستغلالها ومراودتها عن نفسها فيعرف زوجها حامد بالواقعة، ويحاول قتلها فى لحظة غضب، فتقرر الزوجة الهروب، لكنها تتوه في المدينة وسط الصخب والضجيج اللامتناهي.
حاول المؤلف من خلال هذه المجموعة القصصية ابراز تداعيات الصدام بين براءة الريف والمدينة المليئة بالصدامات، والصراع مشبهاً مجتمع المدينة المتحضر “بالنداهة” التي تجذب إليها البشر، لكنهم لا يستطيعون الهروب منها، ويستسلمون لها في النهاية.. المجموعة القصصية لم تهاجم المدينة بل إنها تبرز الفوارق الضخمة التي كانت بين الحضر، والريف في ذلك الوقت أواخر ستينيات القرن الماضي والتباعد الشاسع بين الريف والحضر، وتناقش أزمة الصدمة الحضارية من خلال بعض المشاهد التي تقوم بها الزوجة الريفية في التعامل مع أدوات غرفتها الجديدة، التي تسكن فيها مع زوجها فور قدومها إلي المدينة.. النداهة تحولت إلي فيلم سينمائي قام باخراجه حسين كمال. وإنتاج وبطولة ماجدة، وشكري سرحان، وميرفت أمين وشويكار وإيهاب نافع، سيناريو وحوار مصطفي كمال وعاصم توفيق.
وكان أول ظهور لسينما يوسف إدريس على الشاشة كان مع المخرج “هنري بركات” في فيلم “الحرام” فقد استطاع كاتب السيناريو والحوار “سعد الدين وهبة” أن ينفذ إلى جوهر رؤية يوسف إدريس ، كما وفق المخرج “بركات” في اختيار طاقم الممثلين وإدارتهم، وقد كانوا جميعاً من الموهوبين وعلى رأسهم “فاتن حمامة” و “زكي رستم” و”عبد الله غيث” وقد وفق الموسيقار (سليمان جميل) في توظيف الموسيقى التي استخدمت الآلات الشعبية فأضافت إلى الصورة عنصراً جمالياً أسهم مع استثمار المخرج للتصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث في إشعارنا وكأننا نعيش الحدث مع شخوصه ليقدم الفيلم بانوراما رائعة لحياة عمال التراحيل بلا خطابة أو ثرثرة مبرزاً أشد اللحظات الدرامية في حياتهم..ومن هذا المنطلق كتبت جريدة لوموند الفرنسية عن الفيلم، وقالت :
“لقد أثار فيلم الحرام للمخرج بركات اهتماماً خاصاً.. كان من الممكن لهذا الفيلم أن يكون مجرد فيلم ميلودرامي ، إلا أن المخرج لم يقع في هذا الخطأ، لماذا..؟ لأنه حافظ على الواقعية في الفيلم.. إنه يعطينا سجلاً للحياة اليومية في قرية صغيرة.. وتصوير البطلة يعكس باستمرار ما يعانيه هذا المجتمع، فهي رمز للمجموعة وهذا هو ما أعجبنا في الحرام”
ورغم هذه الإشادة نلاحظ أن السينما المصرية لم تقترب كثيرا من إبداعات يوسف إدريس برواياته ومسرحياته وقصصه القصار التي ملأت أربع عشرة مجموعة قصصية إلا تسع مرات فأضاعت على نفسها فرصة للنهل من نبعه العميق، ثم أعادت إضاعة الفرصة في الأفلام المأخوذة عن قصصه، فالسينما لم تحافظ على عمق رؤية الكاتب الكبير، وإنما حاولت أن تطوع إبداعه لمقتضياتها فسطحت فنه العميق وربما لم تنتج السينما فيلماً جميلاً عن عمل ليوسف إدريس إلا مرتين في “الحرام” و “لاوقت للحب”، أما في الأفلام الأخرى فقد تباين نصيبها من النجاح حيث حققت بعضها نجاحاً محدوداً …وربما يرجع ذلك إلى عدم فهم البعض من صناع السينما لفكر “يوسف إدريس”،وما “فتحية” إلا رمز.. لكن الفيلم اختار أن يقتصر على تتبع طريقها للسقوط، كشأن السينما العربية، وبدلاً من أن يقبح الرجل المتحضر الذي يغوي فتحية مثلما وضحت القصة، راح يصوره جذاباً وثريٱ تحبه الجميلات. مبهرا لهم بما لديه من استخداماته التكنولوجية الحديثة .
وأهم ما تتميز به أعمال يوسف إدريس، أنها كانت انعكاسا للواقع المصري، فأبرز تركيب الشخصية المصرية في أعماله بلغة بسيطة عامية، فكانت شخصيات قصصه؛ تدور حول محورين أساسين هما، شخصيّة المرأة باعتبارها عنصرا مهمشا أكثر من غيره، فطوع حياته للدفاع عنها وللكتابة من أجلها، بالإضافة إلى الشخصيات الرجولية وهي شخصيات، في معظم الحالات، من الشريحة المظلومة في قاع المجتمع المصري وهي تمثل الإنسان المصري الذي يعيش على هامش الحياة المصرية بكل مستوياتها.
قال عنه عميد الأدب العربي “طه حسين”: “أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول “أرخص ليالي” على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها”…والكلام عن يوسف إدريس يحتاج لصفحات وصفحات، حتى نوفيه حقه علينا وربما لانستطع.
قدمت ماجدة دورها بكل مالديها من خبرة، فى دور الفلاحة،وتاريخ ماجدة يحمل ثلاثة أفلام كانت قدمت فيهم دور الفلاحة هي: “دعونى أعيش”, “عشاق القرية” و “في سبيل الحب” ويأتى النداهة فى الترتيب الرابع وكانت ماجدة على مستوى الأداء لشخصية فتحية الشابة الريفية الجميلة القادمة من ريف مصر، حيث بساطة الحياة نقية بريئة صافية، والمساحات واسعة رحبة، والعلاقات الإنسانية الدافئة قائمة، والطبيعة متألقة، لتعيش بصحبة زوجها فى المدينة،حيث يعيش الفقراء مسحوقين في قاعها، ويعملون على هامش حياة معقدة غامضة، ويضيعون في النهاية؛ لعجزهم عن التوافق وفشلهم في الانسجام مع مغرياتها…وكان دور شكرى سرحان بسيطا قدمه ببراعة غير متكلف، لم يبذل فيه كثير من الجهد، بالقياس لدوره فى فيلم اللص والكلاب على سبيل المثال، فالشخصية مباشرة كما تخيلها الكاتب تحتويها الطيبة والأخلاق والقيم الريفية الحميدة،قدمها شكرى بهدوء وبثقة…باقى أبطال الفيلم قدموا أدوارهم بسلاسة وبلا تعقيد حيث الشخصيات ايضا مباشرة ،بلا اى لبس او غموض بدأ من أيهاب نافع وشويكار وميرفت أمين ومنى جبر …معظم المجموعة المشتركة فى الفيلم كانت مباشرة واضحة،إستطاع المخرج حسين كمال بخبرته الكبيرة وامكنياته السينمائية والفنية أن يدير هذه المجموعة بإقتدار كما عودنا فى كل أعماله السابقة، صحيح أنه أبهرنا فى (شئ من الخوف) وتحكمه فى فريق الفيلم ومتطلباته، ولكن النداهة ربما لإختلاف القصة قليلا فيعتبر فيلما سهل إدارته وإخراجه، حيث أظهر نوع…الوجه الآخر الكئيب المظلم للمدينة: الدعارة والخيانة والفساد واللهاث المحموم وراء لقمة العيش وغياب العلاقات الاجتماعية الحميمة.
ومع أكثر من سبعون فيلما قدمتها ماجدةخلال مسيرتها الفنية التى بدأت فى الخمسينيات حينما كانت فتاة مراهقة، إلا أنها أيضا قدمت نفسها للسينما كمنتجة فنية من خلال إثنا عشر فيلما، وهى: نوع من النساء، والعمر لحظة، وجنس ناعم، والنداهة، والسراب، وزوجة لخمس رجال، ومن عظماء الإسلام، ومن أحب، وهجرة الرسول، والناس اللى تحت، وجميلة، وأين عمرى .
كذلك قدمت ماجدة الصباحى نفسها للسينما كمخرجة، ولكن من خلال فيلم واحد فقط، وهو “من أحب”، والذى شاركت فى تمثيله مع أحمد مظهر وإيهاب نافع وكتبه صبرى العسكرى، وتم انتاجه عام ١٩٦٦ وهو مقتبس من الفيلم العالمى “ذهب مع الريح “عن قصة مارجريت ميتشل الشهيرة والتى قدمتها هوليود وقام ببطولته الممثل “كلارك جيبل وفيفيان لى” عام ١٩٣٩.
بجانب الموسيقي التصويرية التى وضعها الموسيقار والممثل الجزائرى (ابراهيم حجايج) كانت تتردد طول الفيلم أغنية رائعة للمطربة والممثلة (ليلى جمال) أغنية (شيء من بعيد نادانى) والتي غناها محمد منير بعد عدة سنوات بتوزيع جديد .
ربما يكون الفيلم ناحجًا في تعبيره عن التوتر والصراع بين القرية والمدينة، لكنه لا يقدم، في أحداثه ونهايته، ما ينم عن رؤية متماسكة تكشف عن الموقف من الصراع. أهي مأساة فردية فرضتها النداهة النفسية التي سيطرت على شخصية فتحية، أم أنها مأساة موضوعية عامة تطول الجميع وتتجاوز الذوات؟! إذا كان الغرض الثاني هو ما يتبناه الفيلم، فإن النهاية تؤكد على حقيقة أن القرية قرية والمدينة مدينة، ولن يلتقيا .
لقد عالج يوسف إدريس المصريين بالحكايات ولكنه وقع في فخ السياسة مما جعله يقول يوما”أنا على استعداد على أن أفعل أي شيء إلا أن أمسك القلم مرة ثانية وأتحمل مسؤولية تغيير عالم لا يتغير.. وإنسان يزداد بالتغيير سوءًا وثورات ليت بعضها ما قام”.. كلمات قالها الكاتب الكبير ولم يعلم هل كان سيرددها مرة أخرى لو كان موجود بيننا اليوم..؟
(شريف الوكيل)