“دنجي دنجي.. أسود أبيض يابرامة عايشين ويا بعضينا.. سوداني انده كرامه مصري طول عمره أخينا.. مافيش هاجة اسمه مصري ولاهاجة اسمه سوداني.. نهر النيل راسه في ناهية رجليه في الناهية التاني”.. بمجرد اقترابك من ميدان الأوبرا وعلى بُعد خطوات قصيرة تستوقفك هذه الأغنية فتتعجب متسائلا: من في القاهرة لايزال يستمع إلى أغاني سيد درويش خاصة التي تحمل طابع القومية وتتحدث عن وحدة مصر والسودان، تلتقط أنفك رائحة مختلفة، جاءت من بلاد الذهب والعسل، لتقرر الاقتراب فتجد في وجهك “حارة الصوفي”.
ومثلما يجري نهر النيل كشريان يخترق أراضي مصر والسودان، تخترق هذه الحارة المسافة بين شارعي عدلي وعبد الخالق ثروت بالقرب من ميدان الأوبرا بالعتبة وسط القاهرة، لتؤكد أن “هنا سودان صغير بلا سياسة أو منازعات”.. هنا مصر وسودان لم يقدر الاحتلال على تفرقتهما.
بمجرد دخولك إلى الحارة تظل على حال واحدة مشدوها بما تراه، تتلفت يمينا ويسارا لترصد كل ركن، لتتفاجئ بأنك انتقلت إلى “بلاد الويكا” ولكن في قلب قاهرة المعز، محال تجارية.. عِطارة.. قهاوي.. مطاعم.. كل شئ هنا سوداني، هرب السودانيون من جحيم الانقسام والحرب في الجنوب ليستقروا في حارة مصرية شمال الوادي، تجد أناسا من الشمال وآخرين من الجنوب، لم يفهموا بعد أن السودان انقسمت إلى دولتين، فقط يتجمعون في هذه الحارة لأنهم سودانيون.
البداية كانت مع صديقين أحدهما مصري والآخر سوداني قررا تأسيس “مطعم السودان” كمساعدة للسودانيين الذين يلجأون للفنادق المحيطة في وسط القاهرة عام 1986م، ومع رواج تجارة المأكولات تلك، تحول المكان تدريجيا إلى تجمع للسودانيين وتجارتهم، وبدأ السودانيون في تأسيس مملكتهم التجارية في قلب القاهرة.
في مدخل الحارة، قابلنا “الطيب الطيب” بائع سوداني، والذي استقبلنا ببشاشة قائلا: “العلاقة بين مصر والسودان قوية للغاية، لم تضعفها الانقسامات أو الانفصال بعد ولن تقدر، نمتلك دمًا واحدًا وروحًا واحدة، ومنذ أيام عبد الناصر رحلت عدد من القبائل السودانية لتستقر في النوبة وأسوان، وحصلوا على الجنسية المصرية مع مرور الوقت، فامتزجت الأنساب”.
وأكمل: “أشعر أني وجدت نفسي حينما أتيت إلى مصر، أنا هنا منذ عام 1986م، تزوجت وأنجبت أطفال يتعلمون في مدارس سودانية وأخرى مصرية، وبالنسبة لحارة الصوفي فإنها ملجأ لكل السودانيين، هنا سودان صغيرة بدون نزاعات وحروب أو انقسامات، يأتي إليها الجميع، فهي مركز تجاري صغير قريب من العتبة، تأتي إليه المنتجات السودانية الأعلى جودة على الإطلاق”.
ارتسمت ابتسامة على وجهه وقال: “لا أشعر بالغربة، كنت في السودان أرى أن المصريين احتلوا دولتنا، وحينما عشت بمصر وجدت أن السودانيين احتلوا مصر، هو شريان واحد نهايته مصر وبدايته السودان”.
وصلنا إلى مقهى “الأوبرا” حيث يتجمع عشرات السودانيين، فتاة سمراء جميلة، وقفت تعد “الجبنة” أو القهوة السودانية بكل نشاط، عادةً القهوة رئيسية على الموائد والجلسات في شمال وشرق السودان، وفي رحلة إعداد القهوة استخدمت سيدة القهوة -كما يطلقون عليها-، موقد فحم نباتي يسمى “كانون” مع قدح من الخشب يسمى “مقلاة” وهو الإناء الذي يحمص به البن، و”فندك” -أداة لسحن البن -، يصاحبه بتعطيش قضيب من الحديد، ثم إناء يسمى “الشرقرق” وهو ما تحضر فيه القهوة ثم مبخر أو مخبر، لينتج في النهاية قدحا من القهوة مذاقه رائع.
وعلى بُعد خطوات قليلة وجدنا “مطعم السودان” حيث تنتشر رائحة الطعام الشهية، الكِسرة والعصيدة والويكة.. أهم المأكولات، وحول المطعم ترتص كراسٍ لسودانيين يتابعون مباراة هامة بالدوري المصري، معظمهم مؤازر لنادي الزمالك، والقليل أهلاويًا خالصًا.
بزيه المميز وقف بشير أحمد محمد، مع زوجته، في منتصف الحارة يتحدثون أمام “السودان بولوتيكا” أو عِطارة أسواق ركن السودان، قال “محمد” متألما: “قدمت من السودان للعلاج، فالأطباء هنا أكثر مهارة، وكان لابد أن أزور حارة الصوفي حتى وإن لم أكن أعرف أي شخص بها، لكنها مقصد لكل سوداني في شوارع القاهرة”.
من داخل “السودان بولوتيكا” تحدث معنا أحمد محمد صالح – عامل-، قائلا: “أنا هنا لإجراء عملية جراحية، أتيت منذ 6 أشهر وأعمل في محل العطارة هذا حتى أحصل المال اللازم للعملية”.
في المقابل، وجدنا صالون “مصر والسودان” لأحدث القصات العالمية المصرية والسودانية، واسترعى انتباهنا العامل المصري الذي يجتهد في إضفاء لمسة سحرية على شعر أحد السودانيين، بينما وقف عامل سوداني يحلق “الشريطة” لأحد المصريين، وتأسس المكان في عام 2012م، ليرحب بالجميع، وتُعد حلاقة “الشريطة، والتربيعة، والجوردن”، الأشهر في الصالون، الأولى تعتمد على خط في طرفي الرأس، والثانية على جعل الشعر في شكل مستطيل متساو، والأخيرة تعتمد على إزالة معظم الشعر.
أما حسن مصطفى –صاحب فاترينة منتجات-، فقابلنا بودٍ موضحًا أن أقرب البلاد إلى قلب كل سوداني هي مصر، وأن هناك مدينة كاملة تسمى بـ”الري المصري” بالسودان يسكنها مصريون، مضيفا: “المشكلة فقط أن المعيشة في السودان صعبة للغاية، تردى الوضع الاقتصادي والأمني، فلجأنا إلى مصر، حيث نشعر بالأمن والآمان”.
واختتم “مصطفى” قائلا: “الجواز عندكم صعب شوية، أنا اتجوزت مصرية من أسوان من 12 سنة وعندي أولاد، بس اليومين دول مفيش سوداني بيتجوز مصرية، الحياة بقت غالية وهنا لازم شبكة ومهر وشقة وذهب، في السودان المصريين بيتجوزوا بدون تكلفة”.