في مثل هذا اليوم 24 فبراير ولد الشاعر حافظ إبراهيم عام 1872، على متن سفينة كانت راسية على نهر النيل أمام ديروط بمحافظة أسيوط، من أب مصري الأصل وأم تركية.
توفي والداه وهو صغير، وأتت به أمه قبل وفاتها إلى القاهرة حيث نشأ بها يتيما تحت كفالة خاله الذي كان ضيق الرزق، حيث كان يعمل مهندسا في مصلحة التنظيم، ثم انتقل خاله إلى مدينة طنطا، وهناك أخذ حافظ يدرس في كتّاب، وأحس حافظ إبراهيم بضيق خاله به مما أثر في نفسه، فرحل عنه وترك له رسالة مؤثرة.
كان حافظ إبراهيم إحدى عجائب زمانه، ليس فقط في جزالة شعره بل في قوة ذاكرته والتي قاومت السنين ولم يصبها الوهن والضعف على مر 60 سنة هي عمر حافظ إبراهيم، فإنها ولا عجب اتسعت لآلاف من القصائد العربية القديمة والحديثة ومئات المطالعات والكتب، وكان باستطاعته – بشهادة أصدقائه – أن يقرأ كتاب أو ديوان شعر كامل في عده دقائق وبقراءة سريعة ثم بعد ذلك يتمثل ببعض فقرات هذا الكتاب أو أبيات ذاك الديوان. وروى عنه بعض أصدقائه أنه كان يسمع قارئ القرآن في بيت خاله يقرأ سورة الكهف أو مريم أو طه فيحفظ ما يقوله ويؤديه كما سمعه بالرواية التي سمع القارئ يقرأ بها.
يعتبر شعره سجل الأحداث، إنما يسجلها بدماء قلبه وأجزاء روحه ويصوغ منها أدبا قيما يحث النفوس ويدفعها إلى النهضة، سواء أضحك في شعره أم بكى وأمل أم يئس، فقد كان يتربص كل حادث هام يعرض فيخلق منه موضوعا لشعره ويملؤه بما يجيش في صدره.
ومثلما يختلف الشعراء في طريقة توصيل الفكرة أو الموضوع إلى المستمعين أو القراء، كان لحافظ إبراهيم طريقته الخاصة، فهو لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال ولكنه استعاض عن ذلك بجزالة الجمل وتراكيب الكلمات وحسن الصياغة، بالإضافة أن الجميع اتفقوا على أنه كان أحسن خلق الله إنشاداً للشعر.
ومن أروع المناسبات التي أنشد حافظ فيها شعره بكفاءة هي حفلة تكريم أحمد شوقي ومبايعته أميراً للشعر في دار الأوبرا الخديوية، وأيضاً القصيدة التي أنشدها ونظمها في الذكرى السنوية لرحيل مصطفى كامل التي خلبت الألباب، وساعدها على ذلك الأداء المسرحى الذي قام به حافظ للتأثير في بعض الأبيات، ومما يبرهن ذلك ذلك المقال الذي نشرته إحدى الجرائد والذي تناول بكامله فن إنشاد الشعر عند حافظ.
حافظ كما يقول عنه خليل مطران: أشبه بالوعاء يتلقى الوحى من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه, فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه.
وقال عنه العقاد: كان مفطوراً بطبعه على إيثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة، ويذكره الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه الموجز في الشعر العربي، فيقول: يتميز شعر حافظ إبراهيم بالروح الوطنية الوثابة نحو التحرر ومقارعة الاستعمار، سهل المعاني واضح العبارة قوي الأسلوب متين البناء، وأجاد في كل الأغراض الشعرية المعروفة.
وكان أحمد شوقي يعتز بصداقة حافظ إبراهيم ويفضله على أصدقائه. وكان حافظ إبراهيم يرافقه في عديد من رحلاته، وكان لشوقى أيادٍ بيضاء على حافظ، فساهم في منحه لقب بك وحاول أن يوظفه في جريدة الأهرام ولكن فشلت هذه المحاولة لميول صاحب الأهرام – وكان حينذاك من لبنان – نحو الإنجليز وخشيته من المبعوث البريطانى اللورد كرومر.
سافر حافظ إبراهيم إلى سوريا، وعند زيارته للمجمع العلمي بدمشق قال هذين البيتين:
شكرت جميل صنعكم بدمعي ودمع العين مقياس الشعور
لأول مرة قد ذاق جفني على ما ذاقه دمع السرور
وكتب حافظ ابراهيم هذه القصيدة في حب مصر:
كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
إِنّي لَأَحمِلُ في هَواكِ صَبابَةً يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ
لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً يَحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقي
كَلِفٌ بِمَحمودِ الخِلالِ مُتَيَّمٌ بِالبَذلِ بَينَ يَدَيكِ وَالإِنفاقِ
إِنّي لَتُطرِبُني الخِلالُ كَريمَةً طَرَبَ الغَريبِ بِأَوبَةٍ وَتَلاقي
وَتَهُزُّني ذِكرى المُروءَةِ وَالنَدى بَينَ الشَمائِلِ هِزَّةَ المُشتاقِ
ما البابِلِيَّةُ في صَفاءِ مِزاجِها وَالشَربُ بَينَ تَنافُسٍ وَسِباقِ
وَالشَمسُ تَبدو في الكُئوسِ وَتَختَفي وَالبَدرُ يُشرِقُ مِن جَبينِ الساقي
بِأَلَذَّ مِن خُلُقٍ كَريمٍ طاهِرٍ قَد مازَجَتهُ سَلامَةُ الأَذواقِ
فَإِذا رُزِقتَ خَليقَةً مَحمودَةً فَقَدِ اِصطَفاكَ مُقَسِّمُ الأَرزاقِ
فَالناسُ هَذا حَظُّهُ مالٌ وَذا عِلمٌ وَذاكَ مَكارِمُ الأَخلاقِ
وَالمالُ إِن لَم تَدَّخِرهُ مُحَصَّناً بِالعِلمِ كانَ نِهايَةَ الإِملاقِ
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاق
ولاحظ الشاعر مدى ظلم المستعمر وتصرفه بخيرات بلاده، فنظم قصيدة بعنوان الامتيازات الأجنبية، ومما جاء فيها:
سكتُّ فأصغروا أدبي وقلت فأكبروا أربي
يقتلنا بلا قود ولا دية ولا رهب
ويمشي نحو رايته فنحميه من العطب
فقل للفاخرين: أما لهذا الفخر من سبب؟
أروني بينكم رجلا ركينا واضح الحسب
أروني نصف مخترع أروني ربع محتسب؟
أروني ناديا حفلا بأهل الفضل والأدب؟
وماذا في مدارسكم من التعليم والكتب؟
وماذا في مساجدكم من التبيان والخطب؟
وماذا في صحائفكم سوى التمويه والكذب؟
حصائد ألسن جرّت إلى الويلات والحرب
فهبوا من مراقدكم فإن الوقت من ذهب
وتوفي حافظ إبراهيم في 21 يونيو 1932م، وكان قد استدعى اثنين من أصحابه لتناول العشاء ولم يشاركهما لمرض أحس به. وبعد مغادرتهما شعر بوطأة المرض فنادى غلامه الذي أسرع لاستدعاء الطبيب وعندما عاد كان حافظ في النزع الأخير، توفى ودفن في مقابر السيدة نفيسة.
وعندما توفى حافظ كان أحمد شوقي يصطاف في الإسكندرية وبعدما بلّغه سكرتيره بنبأ وفاة حافظ بعد ثلاثة أيام لرغبة سكرتيره في إبعاد الأخبار السيئة عن شوقي ولعلمه بمدى قرب مكانة حافظ منه، شرد شوقي لحظات ثم رفع رأسه وقال أول بيت من مرثيته لحافظ:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء