غابة من فيديوهات التحريض على العنف، والعنصرية، والتمييز.. تنشر الكراهية وتروّج للشائعات وتعلم شبابنا طرق تصنيع القنابل وكيفية تفجيرها، فمتى يتحرك المجلس الأعلى للإعلام؟!
في زيارتي الأخيرة لبعض القرى في مسقط رأسي بقنا عند الصعيد الجواني، هالني ما كنتُ أسمعه من فئة ساخطة وناقمة على الوطن، فئة تحصل على معلوماتها من “يوتيوب” وفيسبوك، لكنه هالني أكثر أن بعضًا من هؤلاء سلم نفسه تمامًا إلى الإعلام المعادي الذي يخضع بلا ادنى شك لتوجهات وإرشادات دقيقة من أجهزة مخابرات أجنبية تبث سمومها ليل نهارعلى يوتيوب من دون أن تتخذ الدولة موقفًا واضحًا لوقف هذه الحرب الشرسة التي تسقط صواريخ الكذب والكراهية والتطرف في رؤوس وعقول شبابنا المغرر بهم ليل نهار وعلى مدار الساعة.
إلى ما سبق فإنني أتابع بوصفي ممن يعملون في محراب الكلمة ( مقروءة ومسموعة ومرئية) القرارات والإجراءات التي تقوم بها لجنة الشكاوى في المجلس الأعلى للإعلام بهدف ضبط الأداء المهني، أحيانًا أغضب من بعضها، وأحيانًا كثيرة تعجبني، على أنني مثلي مثل غيري في المهنة التي باتت مثقلة بأعباء ممن لا ينتمون إليها، ويحسبون أنفسهم زورًا وبهتانا عليها، أقف الآن على حائط اليأس من أن يتم الإصلاح في مهنتنا بعدما أصبحت على النحو الذي أصبحت عليه وقد تحولت إلى ميدان للكلمة المعيوبة، في صورة أبعد ما تكون عن المهنية والمسئولية، حتى أنني فكرت بالأمس مع صديق لي أن نهجرهذه المهنة تمامًا وإلى الأبد، لكن وقبل أن نهجرها تبقى كلمة لك أستاذ مكرم.
إن الذين سقطوا ضحايا إعلام الفئة المأجورة التي تبث سمومها من قطر وتركيا ولندن، سقطوا لأنهم فقدوا الثقة في إعلام الفئة الفاشلة الفاسدة التي تحسب نفسها علي 30 يونيو ويفتقدون للإقناع فيما يطرحون، فقط يستخفون بعقول ما عادت من السذاجة أن تؤمن بهم أو بما يطرحون، مثلهم في ما يمارسونه من اجتراء على الكلمة، وعلى معايير الأداء المهني مثل هذ الذي يقف على الضفة الأخرى خارج الوطن، كلاهما يكتب ويتحدث ويذيع من أجل أهداف أخرى غير الصالح العام والضمير المهني والكلمة المسئولة، غالبيتهم كذلك اللهم إلا قليلًا يحملون هم المهنة وهم هذا الوطن.
إننا في حرب يقف كل طرف فيها رافعًا المصحف على أسنة الرماح ويقول أنه الأحق بالوطن، والأخلص للناس، وكلاهما يستخدم الشعارات وسيلة لتحقيق مآرب شخصية الوطن أبعد ما يكون عنها، على انه بين الطرفين يقف “يوتيوب” يستهدف الفئة التي لا تهتم بالإعلام المعادي في الخارج، ولا بالإعلام الموالي في الداخل، يهتم بالذين فقدوا الثقة في الطرفين، هؤلاء هم الجمهور الأكبر في مصر، وفي منطقتنا العربية، “يوتيوب” في موضع أصابعم على الهاتف، ينتشر بينهم في مجتمع من عمر 4 سنوات فما فوق ومن فئات عمرية مختلفة تصل الى الستين، فئة يقدم لها لعبة تحرض على العنف، تتوغل في وجدانهم بهدوء، وفئة يقدم لها أغنية ساقطة تزرع الأفكار المنحرفة، وفئة يقدم لها الدين المغلوط في سلسلة مواعظ مبهرة تهدم ثوابت التربية النفسية الصحيحة، والفئة التي تصل إلى اليأس من مجموع هذه الفئات تستقبلها فيديوهات التحريض على العنف، لتسلمها إلى فيديوهات كيف تصنع قنبلة و كيف تجهز الحزام الناسف الذي يأخذك في طرفة عين إلى الجنة وما فيها من فواكه وأعناب وحور عين.
ينتشر كالنار في الهشيم “يوتيوب” يا أستاذ مكرم، يغرر بشبابنا، و يعلمهم كيف يخلصون البلاد من “الكفرة والمفسدين” وكيف يستعيدون أمجاد صلاح الدين، ليس في تحريره القدس، بل في ذبح وقتل المصريين، “يوتويبو” يا أستاذ مكرم يتوغل في الوجدان المصري بإحترافية تشرف عليها مؤسسات ممنهجة في إدارتها لهذا الملف، تعمل في هدوء، وبينما أنت ونحن مشغولون بمعارك سطحية في الإعلام، في ألفاظ مرتضى منصور الخارجة، وملابس سما المصري الخليعة، يغوص يوتيوب في صمت داخل أوردة الوجدان المصري، فئة يأخذها نحو الإنحراف الأخلاقي، وفئة نحو الإنحراف الديني، وفئات نحو الكراهية والتطرف والإنفلات، ونشر الشائعات.
يا أستاذ مكرم إن مؤسسة (أوف كوم) في بريطانيا، وهيئة (سي.إس.إيه) المعنية بتنظيم البث في فرنسا، تقفان بالمرصاد لأي وسيلة او شخص أو مؤسسسة تحاول النيل من الوجدان الشعبي في بلدانهم، بينما نحن هنا في مصر نترك “يوتيوب” يعبث في هدوء بالوجدان المصري والعربي، بلا أدنى إنتباه لما يتم بحقنا في هذه الغابة المهولة من أفلام العنف والتحريض عليه، ونشر الكراهية بآلاف الفيديوهات من الكذب والشائعات.
يا أستاذ مكرم.. بينما أكتب لكم هذه السطور فإن العديد من دول الاتحاد الأوروبي، بينها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تعتزم معاقبة المذنبين في مواقع التواصل الاجتماعي، ممن ينشرون خطابات الكراهية، والأخبار الكاذبة، والمحتويات غير القانونية.
وفي هذا الإطار وقبل هذا النشاط الملحوظ من دول وحكومات أوروبا الآن تجاه هذه الحرب السيبرانية فقد أصدرت ألمانيا قانونا دخل حيز التنفيذ الآن، ينص على إلزام “يوتيوب” وكافة مواقع السوشيال ميديا إزالة منشورات الكراهية والأخبار الكاذبة والمحتويات غير القانونية بالسرعة القصوى، وبموجب هذا القانون، سيتم تغريم مواقع التواصل الاجتماعي في حال رفضها إزالة محتوى يحرض على الكراهية بشكل واضح، بغرامات مالية تصل إلى 50 مليون يورو، 50 مليون يورو دفعة واحدة يدفعها أي موقع “سوشيال ميديا” ينشر محتوى يحرص على العنف أو الكراهية أو التميز، فماذا فعلت أنت في المجس الأعلى للإعلام يا أستاذ مكرم، وقد أصبح المحتوى المصري والعربي على “السوشيال ميديا” غابة من التحريض على العنف ونشر الكراهية والتميز، غابة لا تثمر أشجارها الملعونة إلا عقولاً خربة ومتطرفة تقتل فينا ليل نهار.
إلى ما سبق وفي إطاره فإن القانون الألماني يتيح لهذه المواقع مهلة قدرها 24 ساعة لمسح المحتويات التي يتم الإبلاغ عنها بأنها غير قانونية، فكم محتوى يا أستاذ مكرم أبلغتم عنه “يوتويب” وغيره من مواقع “السوشيال ميديا” وقامت بحذفه، الإجابة.. صفر ياأستاذ مكرم، ذلك أن “يوتويب” و “فيسبوك” و “تويتر” يا استاذ مكرم يعملون في مصر بدون ترخيص حتى اللحظة، وبدون أدنى رقابة منكم، بينما تجبرهم الحكومات الأوروبية على الرضوخ لقوانين بلدانها واحترام معاييرها في النشر والإعلام، ثم بعد ذلك تقوم هذه الحكومات بتحصيل ضرائب نظير السماح لها بالعمل في أوروبا، أما عندنا يا أستاذ مكرم فيعملون بالمجان، ويحصلون على أموال ضخمة من الإعلانات في السوق المصرية لا يسددون عنها الضريبة التي يسددها الإعلام التقليدي في الصحف والفضائيات، ورغم كل ذلك لا يتوانون عن نشر الحقد والكراهية والتطرف بين شبابنا دون حساب، بينما لجنة الشكاوى عندنا تقيم الدنيا ولا تقعدها على أمور أقل من ذلك بكثير فقط لأنها منشورة في وسائل إعلام مصرية لا يتعاطى معها في الغالب واحد على الألف ممن يتعاطون مع “يوتيوب” وأشقائه من وسائل التواصل الإجتماعي.
يا أستاذ مكرم ومع دخول القانون الألماني حيز التنفيذ، أزالت إدراة تويتر تغريدة للنائب الألماني عن “حزب البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف “بياتريكس ستورش”، وعلقت حسابه لمدة 12 ساعة، كما مسحت تغريدة أخرى لنائب ثان من الحزب نفسه اسمه “ ينس ماير“ لاستخدامه وصف “نصف زنجي” على شخص في أحد منشوراته.
يا أستاذ مكرم.. قبيل بدء تطبيق القانون الألماني، أعلنت إدراة فيسبوك تعليقها 10 آلاف حساب ألماني لنشرأصحابها أخبارًا كاذبة، فعلت ذلك حتى لا يتم حجب الموقع في المانيا، كما كان رئيس حزب الخضر الألماني جيم أوزديمير، قد تقدم بشكوى ضد السياسي من أصول تركية بكر صباهي، لإهانته له في مواقع التواصل الاجتماعي، ما تسبب بسجنه لمدة 30 يوما، فكم تغريدة وكم فيديو في المحتوى المصري والعربي على مواقع “السوشيال ميديا” يا أستاذ مكرم يتطاول أصحابها على مصريين وعلماء ومسئولين ورجال دين ينشرون فيها الإرهاب والتطرف ويحثون فيها على العنف والكراهية وحاسبتهم يا أستاذ مكرم؟
لقد تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يا أستاذ مكرم خلال حملته الدعائية بطلب رسائل التشفير الخاصة بمكافحة الإرهاب من شركات التواصل الاجتماعي في حال فوزه بانتخابات الرئاسة، وأضاف بأنه سيجري في هذا الإطار لقاءات مع إدارات كل من “غوغل” و “فيسبوك” و“آبل” و“تويتر“، وفي تصريح أدلى به بعد نجاحه، أكد ماكرون عزمه مكافحة الأخبار الكاذبة، وأنهم في فرنسا سيصدرون قانونا نهاية العام الجاري للوقوف في وجه الأخبار الكاذبة والبروباغندا التي تنتشرعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
فرنسا يا أستاذ مكرم لا تواجه الإرهاب الذي نواجهه نحن هنا في مصر ، ومع ذلك ألزمت مواقع الإنترنت العالمية، بمحددات تحفظ امنها القومي، فماذا فعلت انت يا أستاذ مكرم؟
لقد أكد الرئيس الفرنسي في حملته الإنتخابية أن بلاده ستطبق عددا من العقوبات في حال نشر الأخبار الأكاذبة، مثل نقل الملف إلى القضاء، وإزالة الخبر المعني، وتعليق عضوية المستخدم، وحظر الوصول إلى الموقع المعني، فما الحال بنا ونحن أمام غابة من الفيديوهات التي تحرض على العنف وتنشر الكراهية والتمييز بين المصريين يا أستاذ مكرم؟
إن الحكومة البريطانية يا أستاذ مكرم إلزامت مواقع التواصل الاجتماعي باتخاذ تدابير بحق مرتكبي الجرائم على الإنترنت، وفي مقدمتهم من هم على صلة بالإرهاب، وأعلنت الحكومة هناك أنها ستفرض عقوبات على مواقع التواصل الاجتماعي في حال رفضها إزالة الرسائل الداعمة للإرهاب، فماذا فعلت أنت يا أستاذ مكرم، والمحتوى على الإنترنت في “جوجل” و “يوتيوب” و “فيسبوك” و “تويتر” يكاد يطفح من الشائعات والحض على الكراهية والعنف والتمييز؟
يا أستاذ مكرم لا يخدعنك المتشدقون بالقول عن الحريات، فبريطانيا نفسها معقل الحريات نقلت في العام الماضي ملف مكافحة المحتويات المتعلقة بالإرهاب إلى اجتماعات مجموعة السبع، والأمم المتحدة، ما أدى إلى تشكيل منتدى دولي لمكافحة الإرهاب على الإنترنت، هذا من جانب ومن جانب آخر يستعد القضاء البريطاني لتشديد العقوبات بحق مرتكبي جرائم الكراهية عبر الإنترنت، إذ يتعرض كل من يخل بالمادة 127 من قانون الإعلام البريطاني الخاص بالمنشورات على منصات التواصل الاجتماعي، بالسجن لمدة تصل الـ 6 أشهر ودفع غرامة مالية تصل إلى 5 آلاف جنيه استرليني.
وفقا لإحصاءات وزارة العدل البريطانية، فقد بلغ عدد المنتهكين للمادة 127 في عام 2016، شخصين يوميا، إذ تعرض أغلبهم لغرامات مالية، في حين وصل معدل السجن لهؤلاء إلى شهرين وأسبوعين، ويعد المستخدمون من أصحاب محتويات الكراهية مثل تشجيع الإرهاب، والعنصرية، والإسلاموفوبيا، ومعاداة السامية، الأكثر عرضة للمحاكمة في بريطانيا خلال السنوات الأخيرة، فلماذا لا نحذوا نحن حذوهم لتنقية المحتوى الإليكتروني من المواد التي باتت تهدد امننا القومي وتضربنا من الداخل ليل نهار؟!
في النمسا يا أستاذ مكرم جري فرض عقوبات بدرجة أكبر على محتويات الدعاية النازية، حيث صدر فيها عام 1947 قانون يُعرف باسم معاداة النازية، ينص على تجريم الإيديولوجية النازية، وفرض غرامات مالية أو عقوبات بالسجن على أصحاب المحتويات المؤيدة لها، فماذا عن الأيدلوجيات الإخوانية السلفية الإرهابية المتطرفة يا أستاذ مكرم؟
في إسبانيا يا أستاذ مكرم فرضت الحكومة هناك عقوبات بالسجن إضافة لغرامات مالية على عدد من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، لأن منشوراتهم تتضمن عبارات استهزاء واستصغار، وإهانات لفظية بحق الملك أو بعض السياسيين، فماذا عن الإهانات اللفظية التي تتم بحق الساسة ورجال الدين في مصر يا استاذ مكرم؟ هذه هي أوروبا التي يتشدوقن بها في الحريات فلماذ لا نطبق نفس أساليبهم حتىى يتوقف المتشدقون؟
لقد فرضت هولندا بحق بعض مستخدمي مواقع التواصل ممن يستخدمون عبارات شتائم على الإنترنت، عقوبات مثل أشغال عامة، وغرامات مالية، والسجن، فمتى نرى مرتضى منصور يقوم بكنس شارع 26 يوليو مثلا، أو تنظيف فناء مدرسة في ميت غمر بالمنصورة، عقوبة له على استخدامه عبارات خادشة للحياء وما اكثرها؟
السويد يا أستاذ مكرم فرضت عقوبة السجن على أحد مواطنيها لاستخدامه في منشوراته ألفاظا مهينة بحق بعض السياسيين، ثم ما لبست أن تراجعت فيما بعد واستبدلتها بغرامة مالية، بينما فرضت الدنمارك عقوبة السجن والخدمة في المرافق العامة على أحد مواطنيها عام 2011 لشتمه رئيس أحزاب المعارضة عبر فيسبوك.
نعم انا أعرف تاريخ مكرم محمد أحمد، فالرجل لم يتربح من موقعه كرئيس للتحرير.. أو كرئيس لمجلس الإدارة كما فعل غيره، كما لم يتربح من موقعه الآن ككبير للعمل الإعلامي والصحفي في مصر، فقد كان يعيش براتبه المحدود دون ضجر.. وهو الآن قانع بما هو عليه، بالمكافآت التي يحصل عليها عن مقالاته، هو يري نفسه أسعد من الذين كانوا في مكانته، أو أقل منها بكثير لكنهم الآن أكثر ثراءً منه، على أنه وهو كذلك يجب عليه وهو العابد في محراب الكلمة قرابة النصف قرن، أن يتصدى لغابة الشائعات والعنف والحض على الكراهية والسخرية التي تملأ الفضاء الأليكتروني، وتستهدف في الأساس خلق جيل هدام في مصر هدفه الأول هدم مصر من الداخل، وحده مكرم محمد أحمد يستطيع أن يفعل، وحده لا يمكن لأحدٍ أن يزايد عليه، كما أنه وحده لا يخضع ولم يخضع في تاريخه للإبتزاز باسم الحرية، وهو ابتزاز بات مكشوفًا للجميع.
افعلها يا استاذ مكرم.. فالمعركة معركة أمن قومي يا أستاذنا الكبير.
رئيس تحرير جريدة البلاغ