الناقد الفنى شريف الوكيل يكتب
لم يكن إحسان عبدالقدوس الأديب الوحيد الذي يتناول حياة المرأة في عصره، لكنه كان أكثرهم فهماً لطبيعتها وتعبيراً عنها، فكان لسانها الذي تتحدث به، وعينيها اللتين ترى بهما العالم، وقلمها الذي تثور به على التقاليد التي حرمتها من الاستمتاع بحياتها زوجةً وأماً وابنة وحبيبة، ورغم هذه الأفكار التحررية والجهد والمعاناة التى عاشها كاتبنا إلا أنها كانت كفيلة بانهمار سيل من الهجوم عليه، واتهامه بالانحلال الأخلاقي وكشف المسكوت عنه، والتمرد على تقاليد توارثتها أجيال، لمجرد رغبة في التعبير عن المرأة بتحفظها وجنونها وتحررها…لقد قدم إحسان عبد القدوس مايقرب من ستمائة قصة مابين القصيرة والطويلة، وقدمت له السينما منها الكثيرمعظمها كان يتناول العالم الخفي للنساء ومشاعرهن المتداخلة، فكانت المرأة بالنسبة له بمثابة الوطن والحياة الجديدة، فوضعنا في إشكالية أن مقياس تقدم الأوطان يبدأ من إطلاق الحرية للمرأة، والعكس صحيح .
وعنه قالت الناقدة “د.فاتن حسين” أن عبدالقدوس أكثر من استطاع التعبير عن المرأة من خلالها، بوصفه أدق المشاعر التي لا تعرفها سواها، فكتبها أدبياً كما عبر عنها نزار قباني شعرياً، كما كان حريصاً على تقديم شخصيات مركبة لا يحكم عليها الآخرون بالخير أو الشر، تفادياً للوقوع في فخ الصورة الأحادية، فسار في هذا الطريق على نهج الروائيين الروس مثل دستويفسكي وتولستوي.
وكان من أسباب جعل المرأة محور البنية الأدبية لمعظم رواياته وقصصه، إلى حياته التى عاشها وهو طفلٱ عندما نزعه جده لوالده من حضن أمه “روزاليوسف”، إذ كان رافضاً امتهانها الفن، ومنذ ذلك الحين ترسب في داخله رفض التقاليد التي ظلمت المرأة في شكل أمه.بالإضافة لرغبته في السير على نهج الرواية الغربية، التي كان مولعاً وملماً بها، فحاول تطوير بنية الرواية المصرية والعربية لتساير ما وصلت إليه مثيلاتها في العالم، لذا نجد نقاط اتصال كثيرة بين أعماله وروايات عالمية شهيرة أخرى، حيث تقترب تفاصيل رواية “لا أنام” وتتوافق مع رواية “مرحبا أيها الحزن” لفرانسوا ساجان الفرنسية ورواية “أنف وثلاثة عيون” مع “امرأة من روما” للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا…وكانت كتاباته
وسيلة لرفضه التقاليد التي ترسخت داخله منذ الصغر، منها عدم جواز فعل المرأة ما يفعله الرجل، سواء في العمل السياسي أو الاجتماعي، أو حتى العاطفى وكأنه يرغب في إنصاف السيدة التي لم يستطع الدفاع عنها وفي الواقع واجه إحسان الكثير من الأزمات بسبب كتاباته، فبعد روابته “أنا حرة”، رفع على أسنة الرماح في أكثر من مناسبة، فوصف الكاتب “عباس العقاد” أعماله بأنها من “أدب الفراش”، كما قام عدد من نواب مجلس الأمة وقتها بسؤال إلى وزير الثقافة حينها يطالب بمنع رواية “أنف وثلاث عيون” بدعوى حثه على نشر الإباحية في المجتمع، كما طالب أحدهم بمحاكمته. على الرغم من أن هيئة السينما ممثلة عن الدولة إشترت الرواية وحولتها إلى فيلم سينمائي، ومسلسلين إذاعي وتليفزيوني. وقد حققوا نجاحا كبيرٱ وكانت الرقابة أيضاً تقف له بالمرصاد، لحد التدخل فى تعديل بعض نهايات رواياته لتتفق مع ماتراه هى وليس الكاتب، وتحدث عبدالقدوس عن نفسه ككاتب متحرر عن الجنس ذات مرة، فقال “لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس، فهناك المازني في قصة “ثلاثة رجال وامرأة” وتوفيق الحكيم في قصة “الرباط المقدس” وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت، ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت، فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب ” وأضاف “نجيب محفوظ أيضاً يعالج الجنس بصراحة عني، ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ، أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب، أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه، لذلك لا ينتقد ولا يثور، أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه”…ا وفى رد له على معارضة الرئيس”جمال عبد الناصر” على رواية “البنات والصيف”، التي تحدثت عن الجنس بين الرجال والنساء في فترة إجازات الصيف، رد برسالة، أوضح له فيها أن قصصه نقلاً عن الواقع، بل إن الواقع أقبح من ذلك، وأكد للرئيس أنه يكتب هذه القصص أملاَ في إيجاد حلول لها.
بوجه عام، كان عبدالقدوس محللاً اجتماعياً ونفسياً من الطراز الأول، استطاع أن يمسك العصا من المنتصف، يعالج الأسرة المصرية بالتطرق لمشاكلها في اتجاه، ويعالج المجتمع بهدف الوصول إلى مصر المؤمنة بوجود امرأة تعمل وتحب وتعيش حياة جديدة أساسها الحرية.
واليوم وبعد كل ماسبق عن إحسان عبد القدوس نقدم فيلمٱ يعد من أكثر الأفلام التى آثارت الدنيا والعالم العربى على وجه الخصوص، جدلٱ واسعا ومازال حتى يومنا هذا نسمع صداه…فيلم “أبى فوق الشجرة”
مأخوذٱ من إحدى قصص مجموعة “دمي ودموعي وابتسامتي” ، وقد أجريت على القصة المعدة للفيلم بعض التعديلات التي لم يكن الكاتب راضياً عنها رغم قوله أنها كانت بسيطة، ولم يقل الكاتب ما هي هذه التعديلات، لكن يلاحظ، من قرأ القصة هذا الإختلاف.
الفيلم قام ببطولته الفنان عبدالحليم حافظ ،وشاركه في بطولته النجوم نادية لطفي وميرفت أمين وعماد حمدي وسمير صبري ، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الممثلين، معهم بعض أعضاء فرقة رضا للفنون الإستعراضية، وكتب له السيناريو والحوار إحسان عبد القدوس وسعد الدين وهبة ويوسف فرنسيس وأخرجه المخرج حسين كمال .
تحكى قصة الفيلم عن عادل (عبدالحليم حافظ) طالب جامعي يقرر بعد إعلان نجاحه قضاء الصيف ، عند بعض أقاربه بالأسكندرية، ويسافر حيث يستقبله صديقه خالد وفي المساء أقيم حفل استقبال لعادل، إلتقى فيه بأسرة صديقه المكونة من الأب والأم والإبنة آمال “ميرفت أمين” قضى عادل وقتًا ممتعًا على الشاطئ مع بقية زملاء وأصدقاء المصيف، أراد عادل أن ينفرد بآمال حتى يتعرفان على بعضهما ويقتربان أكثر، ولكن آمال كانت قد تأثرت بتعليمات والدتها بعدم الانفراد بعادل مطلقًا، فكانت ترفض مصاحبته بمفردها ، حتى ولو للتنزه على الشاطئ وحدهما فى وضح النهار، وفشلت كل محاولات عادل معها، وغضب من تصرفاتها معه، وفي تلك الأثناء تقابل مع أصدقاءه من الثانوى يتزعمهم أشرف “سمير صبري” الذين إصطحبوه لأحد الكباريهات ليسهر معهم، وتعرفت عليه الراقصة فردوس”نادية لطفي”وأعجبت به وأحبته وصحبته لمنزلها حيث أقام معها، وحينما علم أصدقاء الشاطئ بانحرافه قاطعوه حتى أدرك أنه قد فقد شخصيته لأنه يعيش على حساب راقصة، والتي كان يشاهد محاولاتها للنصب على معجبيها وابتزازهم في منزلها أمام عينيه، فقرر تركها والعودة لأصدقاء الشاطئ، ولكن أصدقاءه تخلوا عنه،بمن فيهم آمال، فعاد مرة أخرى لمنزل الراقصة، وصلت أخباره لوالده ، فأسرع بالذهاب للإسكندرية لإنقاذ ابنه، ولكن الراقصة فردوس تخوفت من نجاحه بإبعاد عادل عنها، فطلبت من زميلتها بالكباريه “نبيله السيد” ان تبعد الأب من خلال الإيقاع به فى علاقة معها، وبالفعل نجحت في ذلك، ولما علم عادل بما حدث لوالده، حاول إنقاذه من الفخ الذي وقع فيه، ونجح ومعه شلة الشاطئ في إنقاذه، ليعود عادل لأصدقاء الشاطئ فى شخص جديد بعد أن غيرت آمال من تفكيره .
ويتسائل البعض عن المعنى المقصود من اسم الفيلم (ابي فوق الشجرة) وما هي تلك “الشجرة”… والإجابة يعرفها من قرأ الرواية الأصلية لاحسان عبد القدوس، الذي يقصد شجرة الخطيئة التي اعتلاها الأب لينقذ ابنه منها فانغمس فيها أيضا، بمعنى أنه عندما حاول الأب إنقاذ إبنه من الضياع، نجده يسقط مثله فى نفس المستنقع واستخدم احسان مفهوم “الشجرة” هذا من قصة الخطيئة الأولى الوارد ذكرها في الكتب السماوية، حينما أكل آدم عليه السلام من الشجرة .
استمر عرض الفيلم مدة ثلاثة وخمسون اسبوعٱ في دار سينما ديانا بالقاهرة، حتى أطلق عليها البعض سينما أبى فوق الشجرة، …والأمر الغريب أنه بعد عرض الفيلم في السينمات المصرية طوال هذه المدة، قررت الرقابة المصرية منعه من العرض، لما تضمنه من عدد كبير من القبلات بين بطل الفيلم العندليب الأسمر”عبدالحليم حافظ” والممثلتين الكبيرتين “نادية لطفي” و”ميرفت أمين” …وهنا تكمن بداية الملاحقات لذلك الفيلم سواءٱ من مقص الرقابة وكان له بالمرصاد
أو من النقاد المهتمين بالسينما ، والذين لايميلون لأدب إحسان عبد القدوس، بسبب أو بدون، ولكن السبب مدفون فى بطون النقاد .
ضرب الفيلم الرقم القياسى فى عدد القبلات التى تواجدت فى فيلم واحد لدرجة أن الجمهور كان لديه فضول كبير ليعرف كم عدد القبل التى حدثت بين عبد الحليم حافظ وبطلتا الفيلم نادية لطفى وميرفت أمين وكان من يدخل السينما لمشاهدة العمل يفكر أولاً فى عدد القبلات ، وأتذكر وقتها أنه أثناء مشاهدتى للفيلم، كان الجمهور كله أو معظمه يقوم بالهتاف فى وقت واحد فى عد القبلات قبلة قبلة، أثناء الأحداث لتخرج الأرقام بأن هناك خمسون قبلة ، أو سبعون أو أكثر من ذلك ، حدثت فى الفيلم وكان ذلك أهم أسباب الجدل الرئيسى فى منع عرض الفيلم على شاشات التليفزيون منذ طرحه فى السينمات وحتى الآن. رغم عرضه فى جميع دور السينما المصرية والعربية وحتى صالات الدرجة الثالثة وقتها…وأطلق النقاد على هذا العمل، اسم “فيلم مئة قبلة وقبلة”، وقيل وقتها أن هذه القبلات سببت حرجاً شديداً للفنانة نادية لطفى التي كانت متزوجة حديثاً من شخصية مهمة، ومع ذلك، لم تحذف هذه المشاهد، وعرض الفيلم كما هو، واستمر عرضه في دور السينما أكثر من سنة، واعتبر أحد علامات السينما المصرية…وإن كان قد عرض فى بعض قنوات التليفزيون الخاصة، ولكن ليس بصفة رسمية .
ويعتبر هذا الفيلم هو آخر أفلام (عبد الحليم حافظ)
ومن منا لايعرف العندليب الأسمر..؟ مالئ الدنيا بصوته الجميل الشجى، وشاغل الناس بأغانيه الرقيقة والتى تعلم منها جيلا كاملا معنى الحب والحماسة، فى كل ماقدمه للشعب العربى من الأغانى العاطفية والوطنية، وأرخت له الحياة سطورا وذكريات نقشت على جدران الأمة العربية، وفى وجدان شعوبها ومازالت، كانت أغنية “صافينى مرة” أولى إبداعات العندليب التى قدمته للجمهور من خلال ألحان الموسيقار محمد الموجى ، فأطلقته فى سماء الشهرة ووضعته فى مصاف النجوم، فى زمنٱ غنيٱ بالأصوات الجميلة والقوية، والمحبوبة لدى جماهيرها وفى وسط هذا الزخم من الأصوات الجيدة ، لم يكن من السهل على حليم الوصول لآذان الناس، وكانت ثورة يوليو ١٩٥٢ والتى حملت معها إبداع هذا الصوت الدافئ الشجى، ليصبح مندوب الثورة والسفير الذى رافق آلام الشعب وآماله…إستطاع العندليب أن يحقق المعادلة الصعبة بمثابرته وبصوته وأغانيه الجميلة، وإحتضنته أغانى الثورة الرائعة ، وقد قدمها للشعب المصرى والعربى، بإقتدار ألهب حماس العروبة آنذاك، لتتوالى تفجر الثورات غيرة على القومية العربية، ويصبح حليم رمزٱ وطنيا يصل كل أرجاء الوطن العربى …قدم لنا أكثر من مائتين أغنية مابين القصيدة والعامية والموشح كما غنى لكبار الشعراء العرب ولحن له كبار الملحنين ألحانٱ متميزة مازالت تعيش بيننا، وأيضا أسعدنا بأفلامه الجميلة الدافئة التى قاربت الخمسة عشر فيلمٱ ، كما قدم للإذاعة مسلسل “أرجوك لاتفهمنى بسرعة” إشتركت معه فى البطولة نجلاء فتحى وعادل إمام ، ولظروف حرب اكتوبر لم يكتمل عرضه ، وتمت إذاعته بعد ذلك، وغنى فيه مع عادل إمام إستعراض الطلبة .
أدى عبد الحليم دوره فى الفيلم بإقتدار وتميز تعودناه منه فى كل أعماله حيث الإحساس والدفء فى طريقة نطقه للحوار وساعده على ذلك من البداية نحافة جسده والعاطفة الجياشة التى وهبها الله له، فكانت تحتويه تماما .
بالنسبة لأغانى الفيلم الخمسة كان إختيارهم مناسبٱ وممتازٱ ، فجاء إستعراض دقوا الشماسى من أهم وأحلى الاستعراضات والأغاني الخفيفة التي قدمها عبد الحليم في الفيلم ، بل وفى مسيرته الطويلة، أغنية تؤكد فكرة الفيلم الاستعراضي بكل خفة وجمال، كتب كلمات الأغنية الشاعر مرسى جميل عزيز، صاحب النصيب الأكبر في أغاني عبد الحليم، وضربة البداية مع الموجي وأغنية “مالك ومالي” …كتب مرسي جميل عزيز الاستعراض بكل خفة، هو من كتب قبله ضحك ولعب وجد وحب في فيلم “يوم من عمري” من البداية يتضح إن الاستعراض كتب خصيصًا للفيلم، قصة الفيلم وتوقيت الاغنية، وشكل الاستعراض كلها أمور في ذهن مرسي وهو يتناول القضايا بشكل كوميدي ساخر، من خلال سيناريو متناسق غير تقليدى ، وكان اللحن جميلا شقيٱ صنعه بخفة دم رائعة الموسيقى المتعدد المواهب منير مراد.. وهو فنان يعيش مع الكلمات ليصنع لحنًا متماشيًا مع الجو العام للكلام، يحب العمل الجماعى ، لذلك لم يلحن القصائد، فدائما ماتجده جالسٱ مع كاتب الكلمات والقائمين على العمل كي يخرج العمل في شكل متناسق ومتكامل مع كل الجوانب الأخرى؛ القصة والكلمات والصورة، متنقلٱ بسلاسة بين المقاطع وبعضها، وفي النهاية قدم لنا استعراض متكامل، قام فيه كل شخص بدوره على أكمل وجه…وقد استغرق تصويرالأغنية ثلاثة أيام متتالية، على شاطئ”المنتزه” بالإسكندرية، نظرا لصعوبة تنفيذها بالشكل الذي ظهرت عليه.
الأغنية الثانية في الفيلم هى الهوى هوايا، وكانت بين الثلاثي عبد الحليم للغناء وعبد الرحمن الأبنودي للكلمات وبليغ حمدي للألحان، ويعتبر بليغ صاحب أكبر تذبذب في تاريخ الملحنين المصريين، لا يعرف اللون الرمادي، تارة يصنع لحنًا عظيمًا، وتارة أخرى تجد لحنًا مفككًا، ضعيفًا، لا يوجد فيه أي شكل إبداعي، أو نقلات لحنية تذكر، ويبدو أن هذه طبيعته الموسيقية…ثم الأغنية الثالثة ياخلى القلب وهى أجمل وأفضل أغنية فى الفيلم قدم فيها حليم مع ميرفت أمين إستعراضٱ جميلا بتوقيع حسين كمال، لنعود مرة ثانية لكلمات مرسى جميل عزيز وألحان محمد عبد الوهاب
ذلك اللحن العظيم، ليثبت دائما إنه موسيقار الأجيال بكل ما تحمله الكلمة من معنى وثقل، قال عن عبد الحليم ذات مرة” إنه يمتلك صوت شجي” وإستطاع عبد الوهاب أن يطوع ألحانه على صوت حليم، مابين
الفرح الصارخ والحزن المؤلم، فنجده يتنقل من الحزن للفرح ومن الفرح للحزن، ليقدم
لنا أجمل الألحان…أليس هو المايسترو .
“جانا الهوى” تعود بنا مرة ثانية إلى بليغ حمدى،الذى يقرر أن يصنع لحنا متميزٱ يخلد في سماء الموسيقى العربية، لحنا يضاف إلى مسيرة عبد الحليم الفنية فاالأغنية قدمها حليم فى أحد حفلاته، وبعد نجاحها الهائل، قرر عبد الحليم أضافتها للفيلم لتضيف من نجاحها إلى نجاح الفيلم، كتب محمد حمزة كلماتها كما كتب أغاني كثيرة ومهمة في مسيرة عبد الحليم حافظ
جاءت الأغنية في شكل فيديو كليب، وتم تصويرها في لبنان.
وتأتى الأغنية الأخيرة …أغنية الدراما والنهاية، أغنية أحضان الحبايب، وقد صنعت في أقل من ساعات، كتبها الأبنودى لتكون مسك الختام، ليلتقطها الموسيقار محمد الموجى ليصمم لحنٱ ذهبيٱ ليضيف لجمال الكلام لحن لا يقل جمالٱ، مستخدمًا صوت حليم الجميل كآلة من ضمن الآلات الموسيقية
وتلعب توزيعات الموسيقار الفذ على إسماعيل والتى أضافت الكثير والكثير للتجربة ككل، ليتعامل مع ألحان الأغانى بإستخدام جمل منها لوضع الموسيقي التصويرية للفيلم ، فتحقق للمشاهد أجمل خمس أغانى من خلال أداء عظيم ومتمكن من عبد الحليم، وألحان خرجت من الملحنين كبار، بقدرة احترافية وبكل سلاسة وجمال، ليخرج لنا خمس أغاني تحمل أهم ملامح تجربة عبد الحليم الغنائية.
وعلى الرغم، من أن فيلم “أبي فوق الشجرة” لم يكن التعاون الأول بين عبد الحليم حافظ ونادية لطفي ، فسبق أن إلتقيا معا لأول مرة فى فيلم “الخطايا” الذى أخرجه (حسن الإمام) إلا أن كواليس تصويرفيلم اليوم شهدت خلافات حادة بينهما، وذلك بسبب وجهات النظر حول بعض تفاصيل العمل، والتي وصلت إلى حد الشجار بينهما…استطاعت الفنانة نادية لطفي خلال مشوارها الفني تقديم الشخصيات المتناقضة مع طبيعتها الظاهرية والباطنية، فمن يشاهدها في دور “لويزا” في فيلم الناصر صلاح الدين، لا يتوقع منها أن تؤدي دور الفتاة المستهترة فى فيلم النظارة السوداء، وأيضا دورالراقصة أو العالمة فى فيلمى قصر الشوق، و أبي فوق الشجرة .
لكنها بإصرارها إستطاعت أن تتمرد على تلك الأدوار الرومانسية التي وضعها فيها المخرجون والمنتجون في بداية مشوارها الفني وهذا كان واضحٱ في الفيلمين اللذين شاركت فيهما عبد الحليم حافظ “الخطايا” وقدمت فيه دور الفتاة الرومانسية ، و” أبي فوق الشجرة ” الذي قدمت فيه شخصية فتاة الليل والراقصة، دوران مختلفان أدتهما نادية لطفي باقتدار حتى إن من شاهدها لا يمكن أن يتخيل أن تنجح في تجسيد تلك الشخصيتين المتناقضتين… وربما يرجع ذلك لدورها الذى قدمته فى فيلم قصر الشوق، وتميزها في شخصية (زوبة العالمة) كان سببًا رئيسيًا في اختيارها لتجسيد شخصية فردوس أمام عبد الحليم حافظ .
ويذكر أنه أثناء تصوير فيلم “أبى فوق الشجرة”، تعرضت نادية لطفي، للإغماء نتيجة ضرب عبد الحليم حافظ لها خلال تصوير أحد مشاهد الفيلم، وذلك من قوة وشدة الضرب، وواقعيته، وفى بداية التحضير لتصوير “أبى فوق الشجرة”، رشح مخرج الفيلم حسين كمال الفنانة “هند رستم” للقيام بدور الراقصة وكان عبد الحليم مقتنعا بترشيح الفنانة “نجلاء فتحي” لتجسيد دور حبيبة البطل، كما أنه وافق على ترشيح المخرج لـ”هند رستم” وبدأ حسين كمال في التحضير لتصوير الفيلم، لكنه فوجئ يوما أن عبد الحليم يطلب منه تغيير بطلتي الفيلم، “هند رستم ونجلاء فتحي”، وطلب منه إسناد دور “حبيبة البطل” إلى “ميرفت أمين” بدلا من نجلاء، التي استبعدها لإنشغال نجلاء بزواج شقيقتها، من أحد الأمراء العرب، وأيضا إرتباط نجلاء فتحي لتصوير فيلم أفراح، وبالفعل تم ذلك وبدأ المخرج في تحديد موعد لبدء التصوير، ولكنه فوجئ مرة أخرى بعبد الحليم يطلب منه تغيير هند رستم، لأنه يشعر بعدم الارتياح والانسجام معها في تمثيل الدور، خاصة أنها رفضت القيام بدور الراقصة ، وكذلك فعلت الفنانة “سعاد حسنى”، فرشح “حليم” بدلا منهما نادية لطفي…ليستقر الأمر عليها، وكان الظهور الأول للنجمة “ميرفت أمين” والتى على حد قولها كانت تحلم بمجرد رؤية عبد الحليم ، وكان إختيار حليم لها مفاجأة لم تكن تتوقعها… وكانت ميرفت عند حسن ظن حليم بها لتعلن مولد نجمة جديدة فى سموات الفن السابع ، لتنال حب وإعجاب الجماهير ، اكتشفها وقدمها للسينما الفنان أحمد مظهر عام ١٩٦٨ حيث كانت تعمل في كافيتريا، وشاهدها مظهر فأعجب بها، واقترح عليها العمل في السينما، فوقع معها عقد احتكار تقاضت بموجبه مائة وخمسون جنيهٱ شهريًا من شركة الإنتاج السينمائي التي كان يمتلكها آنذاك وكانت بداية ظهورها في السينما في فيلم (نفوس حائرة) من إخراج احمد مظهر، ومن هنا انطلقت ميرفت أمين إلى عالم النجومية…إشتركت فى خمسة أفلام تم إختيارهم ضمن قائمة أفضل ١٠٠ فيلم بذاكرة السينما المصرية.
أبي فوق الشجرة من إنتاج “صوت الفن” شركة يملكها كل من عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب ووحيد فريد … وقد تم تصوير المناظر الخارجية بلبنان والإسكندرية، وهو الفيلم الأخير في مسيرة عبد الحليم حافظ السينمائية، كما سبق أن ذكرنا…وقد بدأها قبل ذلك بأربعة عشرعامٱ وأنهاها بهذا الفيلم الاستعراضي الكبير، وقد غنى فيه خمس أغاني هم من أجمل أغاني عبد الحليم في مسيرته الغنائية، رغم استمراره في الغناء حتى عام ١٩٧٦وإذا كانت البداية جميلة فإن النهاية كانت أجمل مع“قارئة الفنجان”، كانت أيضًا النهاية السينمائية على نفس درجة الجمال والعظمة.
حقق “أبي فوق الشجرة” إيرادات مرتفعة جدا خلال فترة عرضه، والتي تجاوزت تسعمائة ألف جنيه، في الوقت الذي كانت فيه تذكرة السينما تقريبا قيمتها ثلاثة جنيهات، وكان الأجر الذى تقضاه حليم عن دوره فى الفيلم هو خمسة وعشرون ألف جنيه فقط .
ولحسين كمال طريقته المميزة في التعامل مع الممثلين وادارتهم والاحاطة بهم، وكان محبٱ لعمله ويحترم الآخرين، وأحيانا يكون عنيدٱ فى قراراته .
وهو من خريجى معهد السينما بباريس، تخرج منه عام ١٩٦٥…أخرج للسينما أفلاما عديدة ومتنوعة
تركت بصمات في تاريخ السينما المصرية منها فيلم ثرثرة فوق النيل ،عن رواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ ، وفيلم المستحيل قصة الدكتور مصطفى محمود، والبوسطجى عن قصة للكاتب يحيى حقى ،وأيضا شئ من الخوف للأديب ثروت أباظة، كما أخرج فيلم نحن لانزرع الشوك للكاتب يوسف السباعى، وفيلم النداهة قصة يوسف إدريس، وفيلم أنف وثلاث عيون عن قصة لإحسان عبد القدوس أيضا، بالإضافة إلى أبي فوق الشجرة الذي شكل ثورة حقيقية في عالم الاستعراض العربي …ومعظم هذه الأفلام فازت بجوائز رفيعة في المهرجانات المصرية. وكان حسين كمال من اوائل الذين عملوا في الاخراج التلفزيوني عام ١٩٦٠حيث أخرج العديد من المسلسلات، كما كان متميزٱ في الإخراج المسرحي حيث كانت مسرحياته تستمر لفترات زمنية طويلة ومنها ريا وسكينة من بطولة شادية وسهير البابلي وعبد المنعم مدبولي والتي استمر عرضها اربع سنوات.واخرج حسين كمال مسرحية عادل إمام الشهيرة الواد سيد الشغال التي استمر عرضها طوال خمسة أعوام وحققت أعلى الإيرادات في تاريخ المسرح المصري فضلا عن تنقلها بين العواصم العربية .
وقد إستطاع حسين كمال أن يجعل من حليم في هذا الفيلم ممثلا حقيقيا.. وأن يخلق لديه الرغبة بالظهور كممثل فقط في أفلام أخرى قادمة، بعد أن حقق في هذا الفيلم كمغني أقصي ما يحلم به في ميدان الغناء، وكان الحلم الأخير الذي يداعب خيال عبدالحليم قبل رحيله…هو أن يمثل فيلما لا يغني فيه خصوصا بعد أن وصل إلي أقصي مراحل غنائه التمثيلي في هذا الفيلم ، وأسوة بالمغني الأمريكي الشهير “فرانك سيناترا” الذي حقق نجومية في التمثيل تعادل أحيانا نجوميته في الغناء الذي وصل إلي درجة ترشيحه للفوز بجائزة الأوسكار…ولما لا وقد كان حليم يمتلك قدرة التمثيل ببساطة، وبتلقائية مدهشة ودون أى تكنيك تمثيلي أو اصطناع عاطفي…وتحت إدارة مخرج كبير*حسين كمال* لديه قدرة صنع النجوم، ظهرت قدرات نجم ‘حليم’ الممثل فى أبى فوق الشجرة أكثر من أي فيلم آخر، رغم جمال الأغانى التي أنشدها في الفيلم والتي ربما كانت أجمل مما غناه.. ورغم أن سن دور البطل الذي لعبه حليم في الفيلم لم يكن متناسبا مع سنه الحقيقي…ولكن وكما ذكر الناقد “رفيق الصبان” كلها كانت روافد صغيرة تصب في مجرى نهره الكبير العاطفي الذي جسد فيه شخصية غالبية الشبان المصريين الذين يحبون ويحلمون وينجحون ويحطمون الحواجز التي تقف في طريقهم ويفوزون بقلب الحسناء التي راودتهم طويلا…وساعده فى ذلك طبيعة وجهه المصري الصميم النحيل… وتعبيراته اللغوية، والنبرات الشاحبة والشجن الذي يميز طبقات صوته فإستطاع أن يصل إلى قلوب جماهيره ومحبيه، وأن يصبح جزءا من أحلامهم وأمانيهم… فالغناء لدي عبدالحليم إمتزج امتزاجا كليا بالأداء ليصبحا جزءٱ واحدٱ في مسيرته الفنية ليتحول إلى أسطورة، ويصبح نموذجا فريدا ومختلفا للممثل والمطرب .
لقد حقق فيلم أبى فوق الشجرة المعادلة الصعبة كما يقولون، بدأ من قصة إحسان عبد القدوس وحبكتها الفنية التى صاغها بحوار وسيناريو جيد متزن كل من الكاتب سعد الدين وهبه والفنان الرقيق يوسف فرنسيس ، وبألحان عمالقة من الموسيقيين المتميزين، يرافقهم صفوة من كتاب الأغانى والشعراء الذين شكلوا بجمال كلامهم وجدان الناس، ولم تزل تعيش كلاماتهم على شفاه محبيها وعاشقى الأغانى والفن الجميل حتى اليوم ، من خلال صوت العندليب الأسمر
كل هذا إستطاع أن يجمعه المخرج حسين كمال بين أنامله، ليقدم لنا فيلمٱ جميلٱ متميزا متضمنا اكبر مجموعة من الفنانين الكبار فى مقدمتهم عبد الحليم حافظ ونادية لطفى وميرفت أمين وعماد حمدى وسمير صبرى وفتحى عبد الستار ونبيلة السيد مشتركين مع العديد من الفنانين أصحاب المواهب والآداء الراقى …لتتباهى شركة صوت الفن بذلك العمل الكبير، الذى أقام الدنيا نقدا ولم يقعدها حتى اليوم، على الرغم مما حققه من نجاحٱ عربيٱ منقطع النظير .
(شريف الوكيل)
***************************************
.