تقف السيدة السكندرية ذات الثلاثين عامًا حزينة، دمعات حائرة تتساقط على خديها الذابلين، لم تكن تعلم حينما تقدم رفيق دراستها إلى والدها للزواج بها، أن أحلامهما البريئة سوف تنقضي بعد شهور من الزواج، حينما أخبرها الطبيب أنها لن تصبح أمًا في وقت قريب أو ربما لن تصبح أمًا إن بقيت على ذمة زوجها الحبيب، فلا سبب يمنع كليهما من الإنجاب، لكنه أسّر إليهما: «لا تنتظرا طفلًا في وقت قريب».
عادت السيدة السكندرية إلى منزلها لتقص إلى جارتها -صعيدية الجذور- ما أخبرها الطبيب به، لتسمع الجارة كلماتها في إمعان وتبتسم في هدوء معلنة: «لدي الحل.. زيارة إلى المنيا وينتهي كل شيء».
بعد يومين، كانت الزوجة مع جارتها في القطار المتجه إلى المنيا، كانت قرية «البهسنا» بمركز بني مزار، وجهتهما، حيث تقبع قباب «السبع بنات»، حيث دفنت سبع مسيحيات منذ زمن بعيد، وأصبحن وفقًا للتراث الشعبي بالمحافظة وما يحيطها من محافظات، من أولياء الله الصالحين، ولكن هذه المرة في المسيحية.
الغريب في الأمر أن السيدة السكندرية لم يمض على زيارتها تلك سوى ثلاثة أشهر إلا وقد حملت بطفل بالفعل، ابتهلت السيدة إلى الله شاكرة، وأقسمت أن ما حدث برضاء من الله ثم ببركة «السبع بنات».
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).. أخبرنا الله سبحانه في آياته أنه قادر على جمع الناس في دين واحد، لكنه قضى بحكمته الاختلاف بين الناس، حتى يصل كل منهم إلى الحق بنفسه، منهم من آمن فاعتنق الإسلام، ومنهم من اتخذ المسيحية سبيلاً، ومنهم من كان صديقًا لله، يطيعه ويكتفي به عمن سواه، فأصبح مرتفع الشأن مقربًا من المولى ومحببًا لدى خلقه.. إنهم أولياء الله الصالحين.
وفي مصر، يحوز الأولياء والقديسين على مكانة كبيرة لدى المصريين، ويُعتبر التبرك واللجوء إلى الأماكن الدينية عادة منتشرة، خاصة بين أهالي الصعيد باختلاف دياناتهم، وهناك نجد العديد من الغرائب والعجائب فما بين الواقع والخيال نجد أنفسنا أمام قصص مذكورة يؤكدها رجال الدين ويعتبرونها معجزات، التشكيك فيها خط أحمر.
تعريف الوليّ
والأولياء هم أهل الإيمان والتقوى، الذين يراقبون الله في جميع شؤونهم، فيلتزمون أوامره، ويجتنبون نواهيه، وذكر «أبو حامد الغزالي» أن الوليّ يُلهَم في تلقي العلم من الله، وأن الأولياء يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، وكذلك «السهروردي» فقد ذكر أن من صفاتهم أنهم يسمعون كلام الله.
وفي مصر، تمتزج الثقافات المختلفة، فمن بعد الكنائس والمساجد، أصبحت قبور الأولياء والقديسين أماكن اللجوء إلى طلب المعونة، فالمسلم يقف بجوار المسيحي في الكنيسة والمسجد، أو أمام الضريح، فلا يختلف القاصد لمدفن الحسين بمسجده في القاهرة، عن القاصد لكنيسة مار جرجس، الجميع يسأل ويتبرك ويطلب المعجزات، هنا لا يختلف المسلم عن المسيحي في التبرّك وإطلاق الدعوات، وترك أوراق صغيرة فيها الكثير من الأمنيات مثل سِعة الرزق، والشفاء من الأمراض.
تعريف المعجزة أو البركة
ويختلف نطق المصريين لكلمتي معجزة أو بركة –حسب ديانتهم-، فالمعجزة حادثة غير عادية تخرج عن المألوف، فتثير في الإنسان العجب، وتعتقد المسيحية أن الذي يجري المعجزات هو الله بذاته أو بواسطة القديسين، أما مفهوم البركة فيرتبط بموالد القديسين أو الأولياء، وتعني زياده في الخير وسعة في الرزق وشفاء من الأمراض والحمل والإنجاب وذريه صالحة واتقاء الشر والمرض ويرتبط بها المسلمون أكثر.
وكما ذكرنا، فإن المصريين لا يفرقون بين الولي المسلم والقديس الشهيد المسيحي، وليس هناك أكثر من النماذج الموجودة في مصر دليلاً على ذلك، «البلاغ» تأخذكم في جولة لتعرفكم إلى بعض «أولياء الله المسيحيين»..
سانت تريزا
تعد «سانت تريزا» هي الملهمة الكبرى لدى المصريين، وكنيستها التي تحمل نفس الاسم بشبرا، أحد أبرز المزارات الدينية التي تجمع المسلمين والأقباط، يتبركون بها ويشكون إليها آلامهم وأوجاعهم، مثبت على جدرانها لوحات رخامية تسجل نذور المصريين للقديسة، تجدهم مرضى يعانون من مشكلات صحية أو طلاب يتمنون النجاح، أو فتيات يرغبن في الزواج، غير أن أول ما يشد الانتباه في تلك اللوحات هو ذلك العدد من الأسماء البارزة، من فنانين ومثقفين ومواطنين عاديين، كانوا ولا يزالون من عشاق القديسة، يتقدمهم المطرب الكبير الراحل عبدالحليم حافظ.
«مار مينا»
يقع في صحراء مريوط، قرب مدينة برج العرب، وعلى بعد 70 كيلومتراً من مدينة الإسكندرية، دير القديس مار مينا والذي يشتهر بقارورته، التي تدور حولها معجزات الشفاء، وهي قارورة من الفخار طولها من 7 إلى 10 سنتيمترات، ولها يدان من الفخار ومفرغة من الداخل، يمكن أن تُملأ بالماء أو الزيت، ومحفور عليها من الخارج صورة الشهيد مار مينا وحوله جملان يركعان عند قدميه.
القديس «أبسخيرون»
كنيسة القديس «أبسخيرون» الموجودة فى قرية «البيهو» التابعة لمركز سمالوط بالمنيا، تعد من أقدم الكنائس بمصر ولها من القصص ما يجعل آلاف المواطنين يأتون إليها ليتباركوا بها سواء لتاريخها أو لـ«البئر الشافي» الذى يعد علاجا طبيعيا، وتحكي الأساطير أن هذا القديس نقل الكنيسة من محافظة كفر الشيخ إلى المنيا بعدما اقتحمها البربر محاولين قتل 7 عرسان أثناء قداس الزواج.
ويظهر البئر أمام أبواب الكنيسة القديمة، ويقال أنه يشفى المرضى، خصوصا أمراض الكلى والمسالك البولية، ويُشاع أن مائه لم تجف من مئات السنين، ويتوافد الآلاف من جميع المحافظات يوم 14 يونيو من كل عام إلى القرية للاحتفال بيوم القديس «أبسخيرون» ويتبركون بمياه البئر.
السبع بنات
أما في قرية «البهسنا» بمركز بني مزار بالمنيا، فنجد منطقة «السبع بنات»، التي يقال إنها مدفون بها 7 راهبات قمن بإمداد جيش المسلمين بالماء والطعام خلال فتحهم للقرية؛ لتخليصهم من حكم الرومان، فتم قتلهن، وتأتي النساء لزيارتهن معتقدات في بركة الشفاء التي تحصلن عليها، فتتدحرجن على الرمال، ووفقًا للعادات المتبعة فإن من تتدحرج بشكل مستقيم، تكون الأرض قد قبلتها، وسوف تنجب قريبًا، ومن تنجرف إلى اليسار، فإن الأرض قد رفضتها، ولن تنجب.
العذراء
كما يقام على جبل الطير بالمنيا بنهاية مايو، مولد «العدرا»، فيذهب المرتادون للمولد بالمعدية، ويعد هذا المكان من أماكن زيارة العائلة المقدسة فيه قضت السيدة العذراء 3 ليالٍ، لذلك يعتبر مكانا مقدسا للمسلمين والمسيحيين، فيقف المسيحي يرنم «ابعتيهم يا عدرا، ويا رب اللي ما يشتري مني ما تستجيب لصلواته»، ويقف المسلم يمدح: «وحياة من خلق محمد.. خلق المسلمين والنصارى، يا سيدي علي يا عدرا أأموري، يا فاطمة يا بنت النبي».
القديس عبد المسيح المقاري
وفي قرية المعاصرة – مركز طماي محافظة المنيا، والتي تبعد عن القاهرة نحو 210 كيلو مترات، يقع مقام القديس عبدالمسيح المقاري، والذي يلتف حوله العديد من المريدين، بداية من التلاميذ الصغار الذين يذهبون إليه طلبا للحصول على المجاميع الكبيرة، والموظفون طلبًا للحصول على الترقية.
ويعتقد أهالي القرية أن هناك كرامات كثيرة لمقام القديس مقاري فطلب المجموع العالي أو الترقي في الوظيفة جزء صغير من كرامات صاحب المقام ويحكي الأهالي أن كرامات القديس «مقاري» تشمل شفاء المرضى والحيوانات، والطيور ما دفع أكثر من 100 ألف مسلم ومسيحي، للحرص على زيارة المقام.
مار جرجس
وفي الأقصر، يقام مولد داخل دير مار جرجس مولده، بجبل الرزيقات في الأقصر في 10 نوفمبر من كل عام ولمدة أسبوع، حيث تجتمع آلاف الأسر داخل الدير تضئ الشموع، وتنذر النذر يشاركها المسلمون مفترشين الأرض بالحصر ويلعب الأطفال.
ويبقى المصريون مؤمنين بفكرة القديس والولي، والتي تمتد من جذور التاريخ المصري القديم «الفرعوني»، لتحمل بقايا مما ترك الأولين، من ذرية إيزيس وأوزوريس، ليبقى التبرك هدف ومعنى يحفظه كل مصري ظهرًا عن قلب.
أما القديسون القدامى فالكثير منهم شهداء فترة اضطهاد رومانى للكنيسة القبطية، فيما عرف باسم «عصر الشهداء»، وفى إسنا يوجد ضريح «الفلاحون الثلاثة» كما يتم إحياء الموالد القبطية.
ويعتبر البابا كيرلس السادس من أكثر القديسين المحدثين شهرة، وقد دفن فى دير «مار مينا» ويقوم الدير والضريح أعداد كبيرة من الحجاج أيام الجمع والآحاد، وهناك يفعلون فى الضريح مثلما يفعل المسلمون فى أضرحة أوليائهم، حيث يكتبون المظالم والحاجات فى رسائل يتركونها فى المقام.