يقول الصوفيون عن أنفسهم بأنهم «خاضوا بحرًا وقف الأنبياء على ساحله»، تعمقوا في البحث لدرجة أن وقع على عاتقهم كثيرًا من مهام الأنبياء، هم شموس أهل الدنيا، يهيمون في عشق الله، لا يريدون من الدنيا متاعًا، لا يفقهون في السياسة أو غيرها، فقط هم يسعون للآخرة، فهم من صافوا الله فصافاهم الله.. علاقتهم معه علاقة الحبيب بمحبوبه، لكنهم دومًا كانوا مطمعًا لرجال الحكم، أرادوا أن يستقطبوهم لارتفاع قامتهم وكبر أعداد مريديهم وتابعيهم، وقدرتهم على الحشد خاصة وإن كان في مجتمع يرى حكامه أنه شعب «متدين بطبعه» مثل مصر.
واختلف موقف الصوفية عبر التاريخ تجاه الطبقة الحاكمة، منهم من خاض أوقاتًا عصيبة وحشد المجتمع للمقاومة ضد المحتل أو الحاكم الظالم، ومنهم من خضع للحكام وسار تحت عبائته مفضلًا سلامته.
“البلاغ” تعرض لكم بعضًا من مواقف الصوفية مع الحكام في مصر..
الصوفيون و مقاومة الحملة الفرنسية
أشار عبد الرحمن الجبرتي -مؤرخ مصري عاصر الحملة الفرنسية-، في مؤلفه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” إلى موقف الصوفية حينما هاجم الفرنسيون مصر بقيادة نابليون بونابرت، قائلا: «خرجت الفقراء -تلاميذ الصوفية- وأرباب الأشاير بالطبول و الزمور والأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا أسمته العامة «البيرق النبوي» فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك وأما مصر فإنها بقيت خالية الطرق ولا تجد بها أحدا سوي النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة.
وأكمل الجبرتي وصفه للحالة التي وصلت إليها المقاومة في مصر بعد دخول الفرنسيين: «لكن شيوخ الصوفية الذين هم زعماء الأمة واصلوا الجهاد وأعلنوا به مع الآذان في الصلوات الخمس لقد حاول الجنرال نابليون بونابرت أن يشتري تعاونهم عن طريق تعظيمهم وتشرفهم وتكريمهم فرفضوا جميع ذلك في أباء المسلم الذي لا يرضى إلا بربه.
ثورة 1919م.. يوم أن خذل الصوفيون مصر
في العصر الحديث كان للصوفيين دور في ثورة 1919م، لكنه لم يكن دور مشرف على أية حال، فقد حاولوا جمع توقيعات تؤيد بقاء المحتل الإنجليزي في مصر على يد «محمد إبراهيم الجمل» شيخ «السادة السمانية» آنذاك، ذلك أن المحتل البريطاني أدرك في أواخر القرن الـ19 الميلادي أن الطرق الصوفية تلعب دورًا مهمًا من خلال مزاولة أنشطتها بين طبقات الشعب، ولهذا حرصوا على إطلاق يد الطرق الصوفية، واحتضنوا شيوخها وتحركاتها ما أدى إلى عمل بعضهم على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على وجودهم.
نجيب.. الزعيم الصوفي
تعرض مجلة «الإسلام وطن» الصادرة عن الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، الرئيس الراحل محمد نجيب، في صورة الصديق الشخصي لشيخ الطريقة العزمية في وقته، والتلميذ لإمامها، والذي كان دائم التردد على المشيخة قبل الثورة وبعدها.
عبد الناصر واستخدام الصوفيين في الحرب ضد الإخوان
وبعد 23 يوليو 1952م، ظهرت الصوفية على الساحة كبديل أمثل للنظام ضد التنظيمات الإسلامية الأخرى وعلى رأسها الإخوان المسلمين، فأصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارًا بتعيين الشيخ محمد محمود علوان، شيخًا للطرق الصوفية، وتعد تلك السابقة الأولى لاختيار شيخ مشايخ الطرق الصوفية بالتعيين دون اعتراض يذكر من قبل الطرق الصوفية على ذلك، كما أنها أصبحت آنذاك ملجأ لمين يريد التنصل من تهمة الانتماء لـ «الإخوان المسلمين» وعبرت عن وجود ظهير ديني للنظام حينها.
وأراد «عبد الناصر» استغلال الطرق الصوفية في فكرة الوحدة المصرية السورية التي كان يتبناها، فأوعز إلى أحمد الجنيدي -شيخ الطريقة الجنيدية- بإنشاء فرع للطريقة في سوريا لتكون ظهيرًا شعبيًا للوحدة في الداخل السوري، مقابل عضوية بالبرلمان المصري لبعض مشايخ الطرق الصوفية.
السادات والقانون رقم 118
أما في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقنن أوضاعهم في مصر من خلال القانون رقم 118 لسنة 1976، ما خلق نوعًا من أنواع التحالف الإستراتيجية بينها وبين النظام.
وأعطى الإذن إلى شيوخ الطرق الصوفية أثناء حرب الاستنزاف بالتسلل إلى الجيش المصري لمحاولة إعادة تأهيله ورفع روحه معنويًا بعد النكسة، وكان للطريقة «المحمدية الشاذلية» دور هام في ذلك؛ مما دفع الرئيس السادات لتكريم الشيخ «زكي إبراهيم» رئيس الطريقة «المحمدية الشاذلية» ومنحه وسام «الامتياز الذهبي».
مبارك والصدام الأخير
وفي عهد الرئيس محمد حسني مبارك، حاول استخدامهم كغطاء ديني للنظام ونجح في ذلك إلى حد كبير، حتى عام 2008م، حينما حدث صدام ما بين نظام مبارك والصوفيين جراء تعيين «مبارك» لـ الشيخ «عبد الهادي القصبي» رئيسًا للمجلس الأعلى للطرق الصوفية نظرًا لكونه أحد أعضاء الحزب الوطني، الأمر الذي أغضب مشايخ الطرق الصوفية واعتبروه انتهاكًا للأعراف والتقاليد الصوفية.
ثورة يناير والصمت الصوفي
لم يؤيد الصوفيون ثورة يناير في بدايتها، وعلل البعض حالة الصمت التي فضلوها بأن الخروج على الحاكم حرام، وبعضهم صرح بأنه يجب أن يسير المجتمع بمبدأ «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، حسبما صرح وقتها محمد الشهاوي شيخ الطريقة الشهاوية.
الصوفيون: السيسي صوفي الطبع
بمجرد ترشح عبد الفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية، اتجه الصوفيون نحو تأييده بدافع معلن أنه «صوفي»، وحاولوا تطبيق مبدأ المصالحة بين الأقطاب الصوفية المتعاركة بعد موقعة مبارك 2008، حتى وأن محمد أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية قد أعلن الصلح «الظاهر» مع عبد الهادي القصبي شيخ الطريقة القصبية ورئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
ويظل الصوفيون لغزًا كبيرًا، ومجتمعًا داخل مجتمع، يحاول الجميع اجتذاب أفراده، وبالرغم من دخول مشايخ الطرق وكبارها إلى السياسة وخوضهم الانتخابات البرلمانية أو دعمهم للمرشح الرئاسي هذا أو ذاك، ما سبب غضب بين بعض طبقات الشعب التي رأت أنهم «رجال الله» وليس لهم من السياسة في شئ، إلا أنهم ما زالوا الشموس التي يتبرك بها غالبية الشعب المصري والذي أعلن مرارًا وتكرارًا بعدما أثبتت كل التجارب أنه «متدين بطبعه».