بعد أن كانوا دراويشا يتنقلون من مكان إلى آخر، بحثًأ عن الله، كان ذلك في شجرة أو بحر، معبد أو ضريح، كهف مهجور أو مدينة معمورة، أو رقصة تحت ضوء القمر وسير في الدروب تحت آشعة الشمس المحرقة، أصبحوا الآن شيعًا وجماعات، تنصلوا من حقيقة أن المتصوف لا يعرف إلا الله فيبتعد عن البشر، يذهب في طريق لا يعود منه أبدا تندمج فيه روحه مع الماء والهواء والتراب، ويتحد مع الطبيعة ليسبح باسم الخالق أينما وجد.
و بعد أن كانت الصوفية وسيلة للزهد والتعبد، صارت صراعا على المناصب والمكاسب، وأصبح المشهد داخل البيت الصوفي مأساويا، بعدما طرقت السياسة أبوابها، وأصبح شيوخها من كبار القوم والساسة بعدما كانوا من الزهاد النساك.
والمطلع على المشهد الصوفي يعرف جيدا أن هناك صراعًا دائرًا بين أبناء الطرق المختلفة، ففي مصر وحدها هناك 78 طريقة يتبعها 15 مليون متصوف مصري على أقل تقدير وذلك بعد اعتماد الطريقة الصديقية الشاذلية العام الماضي كطريقة صوفية رسمية جديدة -هناك طرق صوفية لم يعترف بها رسميًا بعد-، وتجرى انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية العشر ورئيسه والذي يعتبر شيخ مشايخ الطرق الصوفية لمدة 3 سنوات، وأجريت آخر انتخابات في العام 2017.
قد يرى البعض أن الصراع بدأ علنيًا بعد وفاة الشيخ أحمد كمال ياسين شيخ مشايخ المجلس الأعلى للطرق الصوفية في نوفمبر 2008، حيث اجتمع مشايخ الطرق لتفويض شيخ الطريقة العزمية لحين إجراء انتخابات، لكنهم فوجئوا بانتخاب عبد الهادي القصبي -الذي ينتمي في الأصل للحزب الوطني ويمثله بمجلس الشورى في ذلك الوقت- بدلا منه.
ويعتبر «القصبي» الوحيد الذى حظى بدعم من الرؤساء الثلاثة محمد حسني مبارك ومحمد مرسى وعبد الفتاح السيسي، في رأي البعض، رجل «دولة» وسياسة، فالطريقة التي نُصّب بها شيخًا لمشايخ الطرق الصوفية في مصر، لا تخلو من التساؤلات حولها، فبعد وفاة الشيخ أحمد كمال ياسين، اجتمع المشايخ وفقًا لقانون 1976 والذي يعطي الأولوية للأكبر سنًا، وكان وقتها الأكبر الشيخ محمد علاء الدين ماضي أبو العزائم–شيخ الطريقة العزمية-لأنه حينها كان فى الـ67، وقبيل انتهاء الجلسة صدرت الأوامر من دولة مبارك بتعيين الأصغر سنًا – القصبي وكان وقتها 46 عاما- ليعترض أبو العزايم ويرفع راية العصيان، ولأول مرة في تاريخ الصوفيين في مصر، يخرجون إلى ساحات المحاكم لتحدد لهم من هو الأحق بلقب شيخ المشايخ ويجلس على مقعد رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
ومن وقتها إلى اليوم، دخل المجلس الأعلى للصوفية فى خلافات لم يفق منها حتى الآن، بالرغم من الإعلان الظاهرى عن حلها بمبادرة من أبو العزايم بعد الانتخابات بأشهر قليلة، في محاولة ظاهرية للاستجابة لدعوة سابقة للرئيس عبد الفتاح السيسي بوحدة الصف ونبذ العنف.
ولا يخفى على أحد الصراع المستمر بين الطريقة العزمية والطريقة القصبية حول من يتولى منصب مشيخة الطرق الصوفية، رغم مرور عامين على آخر انتخابات أجريت في العام 2017، والصراع بينهما يقع على عدة أوجه منها الداخلي ويتمثل في رئاسة المشايخ والتحكم بقرارات المجلس الأعلى للطرق الصوفية، ومنها الخارجي، فالقصبي -حسب مصادر-، مدعوم من المعسكر الخليجي والذي عمل على إرسال تبرعات ضخمة إلى مصر في السنوات الماضية لمواجهة طيف الإخوان المسلمين قبيل وعقب وصولهم إلى الحكم، بينما أبو العزايم كانت تدعمه إيران، والتي تحاول نشر مذهب التشيع من خلال الأضرحة والموالد مثل ضريح الحسين وغيره، لتصبح الطرق الصوفية في مصر وسيلة جيدة وأداة يحاول كلا المعسكرين المتصارعين في آسيا استخدامها لاكتساح الساحات الدينية في المشهد المصري.
وعلى مر عقود طويلة، نظرت السلطة الحاكمة إلى الطرق الصوفية باعتبارها القوة النائمة التي يمكن استغلالها في مواجهة التنظيمات الحركية الإسلامية النشطة كالإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى، خاصة أن الصوفيين لا يتدخلون بالسياسة إلا عندما يكون تدخلهم لصالح الدولة، وبرر كثيرون ذلك بأن القانون رقم 118 لسنة 1976 والخاص بعمل المجلس الأعلى للطرق الصوفية، ساهم في تدخل الدولة بشكل كبير في تشكيل واختيار المجلس ورئيسه، حيث أنه وبناء على القانون والذي كان ساريا لعقود، يتدخل الأمن وخمس وزارات ويمثلون رسميا في المجلس من خلال مندوبين من وزارة الداخلية والأوقاف والإدارة المحلية ووزارة شئون الأزهر ووزارة الثقافة، خلافا إلى أن رئيس الجمهورية هو صاحب اعتماد تعيين رئيس المجلس بصدور قرار جمهوري بتعيينه، ومن ثم تولي السلطات المصرية اهتماما كبيرا بأنشطة هذه الطرق.
ويظل الصراع قائما أيضا على المنصب لما فيه من مزايا عدة، حيث يحصل شيخ المشايخ على راتب شهري قيمته 4 آلاف جنيه من صندوق النذور، بالإضافة إلى 130 تأشيرة حج سنويا من وزارة الداخلية يقوم بتوزيعها على الطرق المختلفة كل طريقة حسب عدد مريديها، وبذلك يضمن شيخ المشايخ ولاء كل الطرق بمشايخها.
ولا يزال الصراع قائما بين مشايخ الصوفية وأتباعهم، وهو الصراع الذي لن توقفه أي انتخابات قادمة، لاختيار رئيس المشيخة وأعضاء المجلس، ليبقى السؤال: كيف سيكون شكل الصراع بين الأقطاب الصوفية خلال السنوات القادمة؟ وإلى من ستستقر دفة السفينة.. إلى المعكسر الخليجي أم الإيراني، أم سينجح الصوفيون في فرض واقع مصري خالص؟.