التاسعة صباح التاسع من يناير من العام قبل الماضي، كان كل شئ طبيعيًا في منزل “عصام.ع”، القريب من وحدة مرور فيصل بشارع ترعة الزمر بمحافظة الجيزة، الابن العشريني مع شقيقته الشابة يجهزان ما تيسر من طعام الإفطار، ليسرع الأول إلى غرفة أبيه ويدق الباب مرارًا، لكن الأب لا يستجيب، مرت دقائق قلقة قبل أن يتخذ الشاب قراره باقتحام الغرفة، ليجد والده على سريره، غارقًا في دمائه ويتحسسه فلا يجد شيئًا من روح تُذكر، فارق الأب الحياة بـ”مقص” غرسه في رقبته ومعصمه، هربًا من الغلاء وارتفاع الأسعار المتكرر والذي لم يستطع معه الإنفاق على أسرته الصغيرة المكونة من زوجته و ولديه.
لم يكن عصام أول المنتحرين أو آخرهم بسبب الظروف الاقتصادية التي ألمّت بمصر خلال الأعوام الأخيرة، فوفقًا لإحصاءات رسمية وغير رسمية، ارتفعت أعداد المنتحرين بمصر بشكل كبير، خلال السنوات الأخيرة، ويأتي الغلاء في مقدمة الأسباب التي تؤدي للانتحار، حسب خبراء.
تقديرات مختلفة
كشفت منظمة الصحة العالمية عبر موقعها الرسمي، أنه وحتى العام 2014، سُجلت 88 حالة انتحار من بين كل 100 ألف مصري، وأن قرابة 88 ألف مصري ينتحرون كل عام، لكن إحصاءات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الحكومي العام الماضي خالفت تقديرات المنظمة العالمية، وذكرت أن الحالات لم تتعد 183 حالة خلال الــ3 سنوات الأخيرة.
“المركزي للإحصاء” قدم في تقريره، أرقام مغايرة لتقديرات منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة وجهات أخرى رسمية وغير رسمية، وبحسب تقرير مركز السموم التابع لجامعة القاهرة الصادر عام 2016، فإن مصر تشهد نحو 2400 حالة انتحار باستخدام “العقاقير السامة” سنويًا، فيما عرض مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية –مركز بحثي غير حكومي-، تقريرًا، يوضح أن مصر شهدت 4 آلاف حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، خلال الفترة من مارس 2016 وحتى يونيو 2017، وأن هناك 2500 حالة انتحار في مصر سنويًا، ما يخالف تقديرات الجهاز الحكومي الرسمية.
لكن تقديرات ضخمة أعلنتها منظمة الصحة العالمية سببت حالة من الرعب بين المطلعين، فخلال عام 2015، تجاوزت أعداد من حاولوا الانتحار 500 ألف مصري، وبحلول عام 2016 احتلت مصر المركز 96 على مستوى العالم من حيث عدد المقبلين على الانتحار، حسب المنظمة.
◄ عدد حالات إيذاء الذات عن عمد في مصر، 52 حالة انتحار في عام 2015 بينهم 36 حالة من الذكور و16 حالة من الإناث، ثم ارتفع إلي 62 حالة في عام 2016 بينهم 51 ذكور و11 إناث، وصولًا إلي 69 حالة في عام 2017 بينهم 53 حالة بين الذكور مقابل 16 من الإناث، حسب “المركزي للإحصاء”.
الانتحار السريع
فوجئ قائد القطار رقم «١٢٤» أثناء دخوله محطة مارجرجس بمنتصف الرصيف اتجاه حلوان، بإلقاء فتاة بنفسها أمام القطار، ما أدى إلى مصرعها في الحال، وتداول مستخدمو الفيسبوك فيديو يوضح كيفية انتحار الفتاة في يوليو الماضي، ولم تكن تلك الحالة الوحيدة التي أقدمت على الانتحار تحت عجلات مترو القاهرة للتخلص السريع من حياتها، فأعلن في بيان رسمي للشركة المصرية لتشغيل وإدارة مترو الأنفاق عن 5 حالات من مارس إلى نهاية يوليو الماضيين (3 ذكور وفتاتين).
◄رصدت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات – منظمة غير حكومية-، في تقرير لها أن هناك تزايداً ملحوظاً في عدد حالات الانتحار العام المنصرم، فحتى بداية أغسطس الماضي تم تسجيل أكثر من 150 حالة انتحار قام بأغلبها شباب في الفئة العمرية ما بيم 20 و 35 عاماً.
وتكشف التقارير أن السبب الأول لإقبال الشباب على الانتحار، سوء الأحوال الاقتصادية ما ترتب عليها مشكلات أبرزها تأخر سن الزواج لدى الجنسين، فوفقًًا لـ”المركزي للإحصاء” فإن عدد عقود الزواج خلال عام 2016، بلغت 938.526 عقدا، مقابل 969.399 عقداً عام 2015 أي بنسبة انخفاض قدرها 3.2%، بينما بلغت عدد حالات الطلاق 192.079 ألف حالة عام 2016، مقابل 199867 حالة عام 2015 بنسبة انخفاض قدرها 3.9%، كما أن الظروف الاقتصادية السيئة أدت إلى ارتفاع حالات الطلاق بطريقة غير مسبوقة، فوفقًا المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإنه في الفترة من مارس إلى أغسطس 2017، سجلت 24 ألف حالة طلاق عن زواج رسمي، بخلاف حالات الطلاق في الزواج العرفي والتي لم تستطع السجلات رصدها بعد.
وأعلن قطاع الأحوال المدنية بوزارة الداخلية مطلع العام الجاري أن 20 ألف حالة طلاق تقع بين الأسر المصرية في الشهر الواحد، بينما أكدت الأمم المتحدة أن نسب الطلاق ارتفعت في مصر من 7 % إلى 40 % خلال نصف القرن الماضي.
تعامل مختلف
بعد تكرار حالات الانتحار الفترة الأخيرة، أصدر عدد من علماء الأزهر فتوى تؤكد أن المنتحر ليس كافرًًا بإجماع الأئمة الأربعة وإنما عليه إثم كبير، من بينهم أستاذ الفقه والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أحمد كريمة، والدكتورة سعاد صالح، أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر.
معلقًا ذكر الخبير الاقتصادي شريف الدمرداش أن نسب الانتحار المُعلنة غير حقيقية، مؤكدًا أن التقديرات أكثر منها بكثير، مضيفًا أن الحكومة المصرية اهتمت ببناء شبكة طرق وعاصمة إدارية ومشاريع طويلة المدى، لكنها لم تلق نظرة إلى المواطن ومشكلاته الاقتصادية الحياتية، متسائلا: “هل انتحر مواطن لأنه لم يجد الطريق المعتاد على السير خلاله مكسرًا؟”.
وأضاف الخبير الاقتصادي أن الوزاع الديني فقط هو الذي يمنع وصول نسبة المنتحرين في مصر إلى 40% أو يزيد، مكملًا: “أي إصلاح تذكره مؤسسات التقييم العالمية وصندوق النقد الدولي وغيرهم من جهات دولية ومحلية هو كلام فارغ، لإنه لم يصلح حال المواطن”، مشيرًا إلى أنه ليس هناك نسبة وتناسب بين الأجور والأسعار، فالأسعار ترتفع بشكل سريع بينما لا تزيد الرواتب إلا بشكل بطئ، وحسب تقديراته فإن 40% من المصريين تحت خط الفقر، ومثلهم الطبقة المتوسطة بشرائحها الثلاث: الدنيا والمتوسطة والمرتفعة، موضحًًا أن الطبقة المتوسطة ستختفي خلال فترة قصيرة، وأنه مع كل زيادة في الأسعار ينتقل آلاف المصريين من الطبقة المتوسطة إلى طبقة “الكفاف” أو الفقيرة.
وانتقد “الدمرداش” بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء والتي أفادت أن 600 جنيه كافية لمعيشة المواطن في مصر، مؤكدًًا أن “الحكومة في واد والمواطن في واد آخر”.
وشرحت الدكتورة ريهام عصام، خبير الصحة النفسية، أن هناك علاقة وطيدة بين تدني مستوى الصحة النفسية والعوامل المحيطة بالمواطن، مثل التحول الاجتماعي السريع في الفترة الأخيرة، وظروف العمل المُجهدة التي يتعرضون لها، مضيفة أن من ضمن أسباب الأزمات النفسية المنتشرة بمصر حاليًا، التمييز القائم على النوع بين الجنسين، ما ينعكس على صحتهم النفسية.
وتابعت خبيرة الصحة النفسية: “تدني الصحة النفسية للمواطنين، عمل على زيادة العنف الموجه تجاه المجتمع أو الأسرة أو النفس”، مؤكدة أن العوامل الاقتصادية السيئة أجبرت المقبلين على الانتحار على ضعف قدرتهم على المواجهة، وبالتالي لم يعد يرى سوى الانتحار كأقصر البدائل للتخلص من الألم، وعدم تلبيته لاحتياجاته الاقتصادية والاجتماعية والجنسية.
وقالت “عصام” أن الاضطرابات النفسية لدى المنتحر تمر بمراحل متعددة، تبدأ بالتوتر ثم الاكتئاب فالانتحار، إضافة إلى أن الأعباء المثقلة على كافة المحيطين منه جعلتهم غير متفاعلين مع مشكلاته، ما يخلق لديه أفكار سوداوية تقوده إلى الفعل السريع.