وقف عمّار الزبن – الأسير القسّامي المعتقل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي-، أمام الجدار الحجري المرتفع فوقه لأمتار عالية، يحول بينه وبين الشمس والحياة التي أرادها سعيدة مليئة بالشغف والحب والحرية، يتذكر زوجته “دلال” وحديثها السري في زيارتها الأخيرة، ينظر إلى وجهها الذي أشرق بالأمل، متلهفًا إلى موافقة أخيرة من زوجها على ما تقترحه حتى يتسنى لها البدء الفوري والتجهيز للعملية الأكثر سرية على الإطلاق.
عمّار الزبن، أحد قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام البارزين، من قرية “ميثلون” بمدينة جنين شمال الضفة الغربية، اعتقل في العام 1997، ليودع سجن “هداريم” الإسرائيلي جنوبي مدينة طولكرم غرب رام الله، هناك في القسم الذي يحمل الرقم (3)، يقبع الأسرى الفلسطينيون، يحلمون بيوم يخرجون فيه إلى أرض البرتقال الحزين، يتنفسون من شذى أشجار الزيتون، ويتبادلون الأحضان مع أجساد ذويهم المعبأة برائحة الأرض المحتلة، غير أن “عمّار” والذي استشهد شقيقه الوحيد “بشّار” في العام 1995، وقف حائرًا، يفكر في خطوة لم يسبقه إليها أحد، فنسل العائلة سينقطع بعدما استشهد شقيقه الوحيد، وهو لن يخرج من المعتقل ما دام حيًا، فأحكام بالمؤبد وصلت إلى 27 مؤبدًا تنتظره، إضافة إلى 25 عامًا من السجن، فكيف سيرى زوجته “دلال” ويجتمع بها لينجبا طفلًا يحمل اسم العائلة ويصبح سندًا لشقيقتيه “بشائر وبيسان”، تساؤلاته تلك كانت البداية!.
نضال محمد –اسم مستعار حسب رغبتها-، مصرية ثلاثينية، لم يسبق لها الزواج من قبل، مهمومة بالقضية الفلسطينية ولديها كثير من الأصدقاء خارج الحدود المصرية يحلمون بفلسطين محررة وكذلك هي، علمت نضال أن فلسطينيين وجدوا طريقة جديدة لتحرير “نطفهم” خارج أسوار السجون الإسرائيلية، لينجبوا ما أطلق عليهم “سفراء الحرية”، شجعها الوضع وارتفاع نسبة تأخر الزواج في مصر، إضافة إلى إيمانها بقضية الأسرى، على البحث الذي استمر أشهرًا طويلة، لتصل إلى مسئولين بمركز فلسطيني للإخصاب، وترسل إليهم رسالة مفادها: “شرف لي أن أحمل بطفل من أسير فلسطيني.. مصرية”، تحمس المسئولون حسب إفادتها كثيرًا، لكن شروطًا بالغة الصعوبة كانت بانتظارها، أوقفت حلمها، فشروط مثل ألا تكون الفتاة بكرًا لم يسبق لها الزواج، وشهادة أقارب من الدرجة الأولى لها وللأسير، إلى جانب أن تكون زوجته، ويفضل أن تكون فلسطينية، جعلتها عاجزة عن استكمال الطريق الذي بدأته، لكنها وحسب شهادتها، ستعيد الكرّة مرة أخرى، محاولة تذليل تلك العقبات.
تصميم “نضال” على مواصلة الحلم، أعادنا إلى الحلم الذي بدأه عمّار الزبن و زوجته دلال ربايعة، لم يكن عمّار صاحب براءة الاختراع لفكرة تهريب السائل المنوي، سبقه إليها مهندس معدات طبية فلسطيني في أوائل الألفية، إذ سعى وزوجته لإنجاب طفل عبر التوجه إلى مركز للخصوبة، ليتم إيقاف الزوج من قبل قوات الاحتلال قبل العملية، فما كان للزوجة إلا أن قصدت المركز حيث يحتفظ بعينة مجمدة من مِنى زوجها وأجرت العملية لتحمل بطفلها الأول، وزوجها بالسجن دون جِماع مباشر، لكن “عمّار” كان الأسير الأول الذي استطاع تهريب “نطفته” من داخل أسوار السجن.
النطفة المحررة الأولى
استمرت محاولات الأسير القسّامي خمس سنوات، وكللت المحاولات أخيرًا بالنجاح في الشهور الأخيرة من العام 2011، إذ نجح في تهريب سائله المنوي، ولجأ إلى حيلة جديدة تمثلت في تهريب النطفة عبر “حبة التمر” من خلال وضعها في كيس صغير بدلا من النوى، وهي إحدى طرق تهريب النطف، إلى أن وصلت إلى المركز وجرى فحصها فوجدوا أنها ما زالت صالحة للاستخدام، فجرى تجميدها في النيتروجين على درجة حرارة 197 تحت الصفر لحين تحضير بويضات الزوجة، لتتم العملية ويأتي مولوده الثالث ذكرًا في أغسطس من العام 2012، وتحتفل كافة الدوائر الفلسطينية بسفير الحرية الأول “مهند”، أول طفل أنابيب مهرّب لأسير فلسطيني في العالم، وأجرى عملية الولادة القيصرية الدكتور سالم أبو خيزران -أحد أبرز الأخصائيين بالتخصيب في فلسطين والمنطقة العربية- في المستشفى العربي التخصصي بمدينة نابلس.
عوائق كثيرة قابلت الزوجان في رحلتهما إلى “مهند”، فإقناع المجتمع بأمر جديد دائمًا ما يكون صعبًا في البداية، موانع سياسية واجتماعية ودينية، كانت بانتظارهما، لكن فتوى شرعية من طرف الشيخ عكرمة صبري – خطيب المسجد الأقصى ومفتي القدس والديار الفلسطينية وقتذاك-، أباحت مثل تلك العمليات لكن بشرط أن يكون الزوجان قد أجريا اتصالاً جنسيًا كاملاً قبل أسر الزوج، كما يجب أن تعلم كلا العائلتين المتصاهرتين بالعملية، وإعلان ذلك بين أفراد المجتمع المحيط للتشهير به، إضافة إلى حضور ثلاثة أفراد من عائلة الزوج كذلك الزوجة بمركز التلقيح قبل الشروع بأي شيء، كنوع من الشهادة وإثبات النسب، على الجانب الآخر الأسير أيضًا يحضر شهودًا من داخل السجن، أثناء عملية إفراز سائله المنوي.
أيضًا يستند إجراء العمليات إلى فتوى أخرى من الشيخ محمد حسين –مفتي الديار الفلسطينية-، بأن “إجازة الشرع للتلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب تتم إذا حصر التلقيح خارج الرحم بين حيوان منوي من الزوج ببويضة الزوجة، ثم يعود الجنين بعد تبرعمه في المختبر إلى الرحم ويحدث الحمل”، كما أيد مثل تلك الفتاوى منذ بدايتها كثير من علماء الدين، والسياسيين على رأسهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، والقيادي عبد العزيز الرنتيسي.
بحسب أحدث إحصاءات هيئة شؤون الأسرى الفلسطينية، هناك 52 حالة لزوجات أسرى أنجبن أبناء لهن، بمجموع 65 طفلًا وطفلة، الأرقام الدقيقة غير متوافرة، نظرًا لسرية مثل تلك العمليات وعدم إفصاح كثير من الأسر عنها، لكن مبادرة “الزبن” وأسرته، شجعت كثيرين على خوض التجربة.
14 مركزًا طبيًا للإخصاب تنتشر في فلسطين، موزعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، عادة ما يطلب المركز 3 آلاف دولار من أسرة الأسيرة لإجراء العملية، إلا أن مركز “رزان لعلاج العقم وأطفال الأنابيب” في الضفة الغربية، يجري مثل تلك العمليات مجانًا بشرط أن يتأكد من أن الأسير محكوم عليه بمدة طويلة في سجون الاحتلال.
ويخضع توثيق عينات الحيوانات المنوية مركز رزان إلى معايير عالية، إذ يقوم اثنان من عائلة الأسير بتسليم العينة إلى المركز بحضور أخصائيين، ليقوم الجميع بالتأكد من كتابة اسم الأسير وموعد تسلم العينة، ويحافظ المركز أيضًا على العبوات التي هُربت فيها العينات كنوع إضافي من التوثيق، وحسب بيانات سابقة للمركز، فإنه ينصح بأن تبقى العينات المهربة في درجة حرارة منخفضة، وألا يتجاوز وصولها إلى أحد فروعه حاجز الـ12 ساعة، فكثير من العينات المهربة تلفت قبل وصولها إلى المختبر، وتعيش النطفة حتى 72 ساعة فقط عقب استخلاصها، بعد ذلك يقوم المختصون بتنشيط هرمونات الزوجة ثم يتم سحب بويضاتها لتتم عملية إلقاح مجهري أو عن طريق الأنبوب، لتعطي بعد ذلك جنينا أو أكثر وهذه الأجنة يمكن أن تجمد بدورها لوقت لاحق.
كيف يهرب الأسرى نطفهم؟
وفقًا لقانون السجون الإسرائيلي، يحق لكل أسير زيارة أسرية كل أسبوع لمدة أقصاها 45 دقيقة، يتحدثون خلالها من خلف حاجز زجاجي عبر الهاتف، ويسمح لأطفالهم فقط بمقابلة آبائهم مدة 10 دقائق، لاحتضانهم، ويهرب الأسرى خلال ملامسة أطفالهم السائل المنوي موضعًا داخل أكياس رقائق البطاطس، وفي مغلفات السكاكر وزجاجات الأدوية، أو استخدام حبة “الملبس” أو دفنها في حبة الشوكولاتة، أو من خلال وضعها في علبة قطرة دواء صغيرة جدا، أو عن طريق القلم وغير ذلك من عبوات، إلا أن السلطات الإسرائيلية اكتشفت بعد وقت هذا الأمر، ليستحدث الأسرى طرقًا أخرى منها إرسال السائل مع رفقائهم المفرج عنهم، أو الاتفاق مع أحد حراس السجن بعد دفع مبالغ مالية كبيرة والذي يهربها إلى الزائرين عقب انتهاء الزيارة.
عمدت السلطات الإسرائيلية إلى عدم الاعتراف بشهادات ميلاد أطفال النطف، كنوع من العقاب الذي تفرضه على الأسرى، حتى أنها منعتهم من زيارة آبائهم في المعتقلات، لإجبار الأسرى على عدم تهريب مزيد من النطف إلى زوجاتهم.
وحسب هيئة شؤون الأسرى الفلسطينيين، فإن التسلسل التاريخي لهذه الظاهرة، منذ بداية العام 2015 كان عدد الأسرى الذين خاضوا تجربة الإنجاب (23) أسيراًـ وأنجبوا 30 طفلاً، بينما ارتفع عام 2016 إلى (28) أسيرا خاضوا التجربة بنجاح وأنجبوا (38) طفلا، بينما تصاعد هذا العدد خلال عام 2017 ليصل إلى (44) أسيرا، وأنجبوا (56) طفلاً، وخلال العام الماضي ارتفع عدد سفراء الحرية إلى (62) طفلا، منهم (11) أسير أنجبوا توائم.
في هذا السياق يقول الأسير المحرر توفيق أبو نعيم، في تصريحات سابقة له، أن القضية أثيرت في عام 1992، حينما أمضى عدد من الأسرى سنوات طويلة داخل السجون دون إنجاب أبناء، ما دفعهم لمطالبة سلطات الاحتلال بالاجتماع بزوجاتهم أسوة بالأسرى الجنائيين الإسرائيليين، ولفت إلى أن الأسرى توصلوا إلى فتوى من العلماء المسلمين حول هذه القضية حيث أكدت أن ذلك يعد حقاً شرعياً للأسير شريطة تأمين مكان احتضان اللقاح، ولكن الاحتلال رفض هذا الطلب، بهدف منع الأسير من التكاثر والإنجاب، ورداً على ذلك قام الأسير اللبناني المحرر سمير قنطار عام 1993 بعقد قرانه على فتاة من مدينة حيفا المحتلة، ما أثار ضجة كبيرة في الأوساط الإسرائيلية وهو الأمر الذي دفع شمعون بيريز للخروج إلى وسائل الإعلام والتصريح بأن ذرية “قنطار” لن ترى النور ما دام على قيد الحياة.
ويبقى الأمل في صدور كثير من الأسرى في السجون الإسرائيلية منذ ذلك اليوم، جميعهم ينتصرون -حسبما ذكر كثير منهم لذويهم-، للمقاومة الفلسطينية، بتهريب أطفالهم من خلف قضبان المحتل الإسرائيلي، ورغم السجن سيظل الأمل متاحًا، ما دامت أشجار الزيتون تنبت.